وَلِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: إنْ أَرَدْت أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي غَيْرِ الْمُسَمَّى بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِي غَيْرِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ بَلْ بِعِلَّةِ النَّصِّ وَإِنْ عَنَى لَا يَثْبُتُ فِيهِ يَكُونُ النَّصُّ مَانِعًا فَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ فَكَيْفَ يُمْنَعُ وَلِأَنَّهُ لَا يُجَابُ الْحُكْمُ فِي الْمُسَمَّى فَكَيْفَ يُوجِبُ النَّفْيَ وَهُوَ ضِدُّهُ
ــ
[كشف الأسرار]
الِاغْتِسَالِ بِالْإِكْسَالِ لِعَدَمِ الْمَاءِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَفُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَمَنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ بِالْإِكْسَالِ لَمْ يَمْنَعُوا الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا بِنَسْخِ مَفْهُومِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ» فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى اتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ الْأَوَّلِ فِي الْحَدِيثِ الْمَاءُ الطَّهُورُ وَبِالثَّانِي الْمَنِيُّ وَكَلِمَةُ مَنْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِأَجْلِ الِاغْتِسَالِ وَاجِبٌ بِسَبَبِ الْمَنِيِّ.
وَالْإِكْسَالُ أَنْ يُجَامِعَ الرَّجُلُ ثُمَّ يَفْتُرُ ذَكَرُهُ بَعْدَ الْإِيلَاجِ بِلَا إنْزَالٍ يُقَالُ أَكْسَلَ الْفَحْلُ أَيْ صَارَ ذَا كَسَلٍ كَذَا فِي الْفَائِقِ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: ٣٦] أَيْ فِي الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ وَهِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الظُّلْمِ فِي غَيْرِهَا وَقَالَ تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: ٢٣] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: ٢٤] أَيْ إلَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى تَخْصِيصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْغَدِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: ٣٤] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْجَنَابَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ الِاغْتِسَالِ وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَقُلْنَا نَحْنُ هَذَا أَيْ مَا قَالُوا: إنَّ التَّنْصِيصَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ التَّنْصِيصَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ بِدُونِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخُصُوصِ كَثِيرٌ وَلِأَنَّهُ يُقَالُ إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ النَّصُّ مَتَى أَوْجَبَ حُكْمًا مُقَيَّدًا بِاسْمٍ يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِهِ فِي ذَلِكَ الْمُسَمَّى وَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ فَلَا يَصِيرُ النَّصُّ بِذَلِكَ الِاسْمِ مَانِعًا ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْمَحَالِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ سَائِرَ الْمَحَالِّ فِي إيجَابِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مَعَ أَنَّهُ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ فَلَأَنْ لَا يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْمَحَالِّ لِنَفْيِ الْحُكْمِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلنَّفْيِ أَوْلَى فَكَيْفَ يُوجِبُ النَّفْيَ وَهُوَ ضِدُّهُ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ الثُّبُوتَ مَعَ الِانْتِفَاءِ ضِدَّانِ وَلِهَذَا يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَمَا يُوجِبُ السَّوَادَ لَا يُوجِبُ الْبَيَاضَ وَإِنْ كَانَا فِي مَحَلَّيْنِ فَكَذَلِكَ الثُّبُوتُ وَالِانْتِفَاءُ لَا يَصْلُحَانِ مُوجِبَيْنِ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَحَلُّ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ التَّنَافِي اتِّحَادُ الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكَاحَ يُوجِبُ الْحِلَّ فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَالْحُرْمَةَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
وَكَذَا الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْمُبَاحِ يُوجِبُ الْحِلَّ فِي حَقِّ الْمُسْتَوْلِي وَالْحُرْمَةَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ إيجَابٌ فِي حَقِّهِ وَنَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَكَذَا النَّصُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَنَافِيًا عَنْ غَيْرِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ اسْتِحَالَةَ اجْتِمَاعِهِمَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ مَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي إثْبَاتِ ضِدِّهِ وَالْحُرْمَةُ عَلَى الْغَيْرِ فِيمَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَثْبُتْ بِالنِّكَاحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute