وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَإِنَّمَا أُخِذَ مِنْ الْوُجُوبِ، وَهُوَ السُّقُوطُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: ٣٦] وَمَعْنَى السُّقُوطِ أَنَّهُ سَاقِطٌ عِلْمًا هُوَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ فَسُمِّيَ بِهِ أَوْ لَمَّا لَمْ يُفِدْ الْعِلْمُ صَارَ كَالسَّاقِطِ عَلَيْهِ لَا كَمَا يُحْمَلُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْوَجْبَةِ، وَهُوَ الِاضْطِرَابُ سُمِّيَ بِهِ لِاضْطِرَابِهِ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا لَزِمَنَا بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ مِثْلُ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ وَتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَالطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ وَصَدَقَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
يُعَاقَبَ بِتَرْكِهِ أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَاجِبُ. وَالثَّانِي لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِتَرْكِ الْمُلَازَمَةِ أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ وَالثَّانِي النَّفَلُ. وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ الْمُبَاحُ إنْ جَعَلَ الْمُبَاحَ مِنْ الْعَزَائِمِ. فَهَذِهِ أُصُولُ الشَّرْعِ أَيْ هَذِهِ أَحْكَامٌ شُرِعَتْ ابْتِدَاءً فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ فَكَانَتْ مِنْ الْعَزَائِمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً فِي أَنْفُسِهَا. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ النَّوَافِلَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَزَائِمِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ فِي أَدَاءِ مَا هُوَ عَزِيمَةٌ مِنْ الْفَرَائِضِ أَوْ قَطْعًا لِطَمَعِ الشَّيْطَانِ فِي مَنْعِ الْعِبَادِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ لَمَّا رَغِبُوا فِي أَدَاءِ النَّوَافِلِ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ دَلِيلُ رَغْبَتِهِمْ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
فَقَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهَا شُرِعَتْ ابْتِدَاءً لَا بِنَاءً عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ فَكَانَتْ عَزَائِمَ لِوَكَادَةِ شَرْعِيَّتِهَا، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي ذَوَاتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّفَلَ مَشْرُوعٌ ابْتِدَاءً لَا يَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ بِعَارِضٍ يَكُونُ مِنْ الْعِبَادِ فَكَانَ عَزِيمَةً كَالْفَرْضِ، وَمَا ذَكَرُوا مَقْصُودَ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ وَالْفَرَائِضُ أَيْ الْمَفْرُوضَاتُ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ يَعْنِي رُوعِيَ فِيهَا كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ زِيَادَةً، وَلَا نُقْصَانًا. مَقْطُوعَةٌ عَمَّا يُغَايِرُهَا مِنْ جِنْسِهَا الْمَشْرُوعِ كَذَا فِي الْمِيزَانِ. أَوْ مَقْطُوعَةٌ عَنْ احْتِمَالِ أَنْ لَا تَكُونَ ثَابِتَةً؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. فَصَارَ الْفَرْضُ اسْمًا لِمُقَدَّرٍ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مِثْلِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِتَصْدِيقِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى لَوْ نَقَضَ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ زَادَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَنَا أُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا.
وَسُمِّيَتْ مَكْتُوبَةً؛ لِأَنَّهَا كُتِبَتْ عَلَيْنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَهَذَا الِاسْمُ أَيْ اسْمُ الْفَرْضِ يُشِيرُ إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّقْدِيرِ، وَفِيهِ يُسْرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَيْسَ بِمَقْدُورٍ وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِشَغْلِ جَمِيعِ الْعُمْرِ بِخِدْمَتِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِيَّةِ فَتَرْكُ ذَلِكَ إلَى مُقَدَّرٍ قَلِيلٍ يَكُونُ دَلَالَةَ التَّخْفِيفِ وَالْيُسْرِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَهُ عَلَيْنَا جَعَلَهُ مُقَدَّرًا لِئَلَّا يَصْعُبَ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ وَيَصِيرُ مُؤَدًّى لَا مَحَالَةَ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ لِشِدَّةِ الْمُحَافَظَةِ وَالْمُلَازَمَةِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ أَعْقَبَ قَوْلَهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: ١٨٣] . بِقَوْلِهِ جَلَّ اسْمُهُ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٨٣] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: ١٨٤] . مِنْهَا عَلَى التَّخْفِيفِ بِإِيرَادِ جَمْعَيْ الْقِلَّةِ، وَهُمَا الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ كَأَنَّهُ قِيلَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ أَيَّامًا قَلَائِلَ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ الْأَدَاءُ وَيَسْهُلَ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ التَّقْدِيرِ التَّيْسِيرُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ التَّيْسِيرِ شِدَّةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَدَاءِ.
قَوْلُهُ (أُخِذَ مِنْ الْوُجُوبِ، وَهُوَ السُّقُوطُ) فَسَّرَ الشَّيْخُ الْوُجُوبَ بِالسُّقُوطِ وَالْوَجْبَةَ بِالِاضْطِرَابِ وَالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ اللُّزُومُ وَالْوَجْبَةَ هُوَ السُّقُوطُ مَعَ الْهَدَّةِ وَالْوَجْبَ الِاضْطِرَابُ.
وَمَعْنَى السُّقُوطِ أَنَّهُ سَاقِطٌ عِلْمًا أَيْ فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ هُوَ سَاقِطٌ فِي نَفْسِهِ مُلْحَقٌ بِالْمَعْدُومِ، وَإِنْ كَانَ فِي إيجَابِ الْعَمَلِ ثَابِتًا مَوْجُودًا. هُوَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ أَيْ كَوْنُ الْوَاجِبِ سَاقِطًا فِي حَقِّ الْعِلْمِ وَصْفٌ مُخْتَصٌّ بِهِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ يَعْنِي سَقَطَ عَنْهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا تَعَلَّقَ بِالْفَرْضِ، وَهُوَ الْعِلْمُ وَبَقِيَ الْعِلْمُ لَازِمًا بِهِ فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِيَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ. أَوْ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ صَارَ كَالسَّاقِطِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ. لَا كَمَا يُحْمَلُ أَيْ يُتَحَمَّلُ يَعْنِي لَا يَكُونُ مِثْلَ الَّذِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute