للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ مَعَ الْقِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَقِيَامِ حُكْمِهِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً مَعَ سَبَبِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ شُرِعَ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُؤَاخَذَةٍ بِنَاءً عَلَى عُذْرِهِ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّخَصِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الرُّخْصَةِ بِكَمَالِ الْعَزِيمَةِ فَلَمَّا كَانَتْ الْعَزِيمَةُ حَقِيقَةً كَامِلَةً ثَابِتَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَتْ الرُّخْصَةُ فِي مُقَابَلَتِهَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَذَلِكَ مِثْلُ التَّرَخُّصِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِيهِ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ، وَلَكِنَّ الْعَزِيمَةَ فِي الصَّبْرِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ ثَابِتَةٌ مُصَمَّتَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ قَائِمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ وَهُوَ وَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّيَّةُ صِفَاتِهِ وَجَمِيعِ مَا أَوْجَبَ الْإِيمَانَ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الْعَبْدَ رُخِّصَ لَهُ الْإِجْرَاءُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نَفْسِهِ أَيْ فِي ذَاتِهِ يَفُوتُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ صُورَةً بِتَخْرِيبِ الْبَيِّنَةِ، وَمَعْنًى بِزُهُوقِ الرُّوحِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ بَاقٍ، وَلَا تَفُوتُ صُورَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ مَرَّةً وَصُدِّقَ بِقَلْبِهِ حَتَّى صُحِّحَ إيمَانُهُ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ ثَانِيَةً إذْ التَّكْرَارُ فِي الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الْإِيمَانِ، وَلَمَّا صَارَ حَقُّهُ مُؤَدًّى لَمْ يَفُتْ حَقُّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بُطْلَانُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الصُّورَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلِهَذَا كَانَ التَّقْدِيمُ حَقَّ نَفْسِهِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ تَرَخُّصًا، وَإِنْ شَاءَ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي دِينِ اللَّهِ لِإِقَامَةِ حَقِّهِ حِسْبَةً أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَعَدَالَةً فِيمَا يُدَّخَرُ لِلْآخِرَةِ فَهَذَا أَيْ الْبَذْلُ مَشْرُوعٌ قُرْبَةً كَالْجِهَادِ أَنَّهُ لَمَّا بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَهْتِكْ حُرْمَةَ دِينِهِ كَانَ فِيهِ إعْلَاءُ دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْجِهَادِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولٌ فَقَالَ لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ فَقَتَلَهُ وَقَالَ لِلْآخَرِ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ أَتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَتَّى قُتِلَ كَانَ أَعْظَمَ لِلْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِلصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ.

وَمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ عَمَّارٍ وَخُبَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا عَمَّارًا فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ، وَمَا وَرَاك يَا عَمَّارُ قَالَ شَرٌّ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْت مِنْك وَذَكَرْت آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ قَالَ فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» أَيْ فَإِنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى التَّرَخُّصِ.

أَوْ فَإِنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ يَأْمُرُ أَحَدًا بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَفِي عَيْنِ الْمَعَانِي لَوْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ لِمَا قُلْت فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُجْرِيَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ.، وَأَخَذُوا خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ وَبَاعُوهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَجَعَلُوا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ وَيَسُبَّ مُحَمَّدًا، وَهُوَ يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ وَيَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِخَيْرِ فَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَأَجَابُوهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَوْجَزَ ثُمَّ قَالَ إنَّمَا أَوْجَزْت كَيْ لَا تَظُنُّوا أَنِّي أَخَافُ الْقَتْلَ ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ يُلْقُوهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَكُونَ هُوَ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى حِينَ يَقْتُلُونَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَا أَرَى هَاهُنَا إلَّا وَجْهَ عَدُوٍّ فَأَقْرِئْ

<<  <  ج: ص:  >  >>