للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إذَا خَافَ الْقَتْلَ رُخِّصَ لَهُ فِي التَّرْكِ لِمَا قُلْنَا مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُرْمَةِ الْمُنْكَرِ بَاقٍ فِي بَذْلِ نَفْسِهِ إقَامَةً لِلْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ تَفَرَّقَ جَمْعُ الْفَسَقَةِ، وَمَا كَانَ غَرَضُهُ إلَّا تَفْرِيقَ جَمْعِهِمْ فَبَذَلَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ فَصَارَ مُجَاهِدًا بِخِلَافِ الْغَازِي إذَا بَارَزَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْكِيَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ جَمْعَهُمْ لَا يَتَفَرَّقُ بِسَبَبِهِ فَيَصِيرُ مُضَيِّعًا لِدَمِهِ لَا مُحْتَسِبًا مُجَاهِدًا. وَكَذَلِكَ فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ غَيْرِهِ رُخِّصَ لَهُ لِرُجْحَانِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ فَإِذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا لِقِيَامِ الْحُرْمَةِ، وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ إذَا أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَصَبَرَ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ حَتَّى مَاتَ وَكَذَلِكَ صَائِمٌ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ وَمُحْرِمٌ أُكْرِهَ عَلَى جِنَايَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْحُقُوقِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ.

ــ

[كشف الأسرار]

رَسُولَك مِنِّي السَّلَامَ اللَّهُمَّ أَحْصِ هَؤُلَاءِ عَدَدًا وَاجْعَلْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

فَلَمَّا قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ تَحَوَّلَ وَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ «وَجَاءَ جِبْرِيلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - يُقْرِئُ سَلَامَ خُبَيْبٍ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ هُوَ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ وَالْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (قَوْلُهُ) ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ أَيْ، وَكَالْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ مَنْ يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فِي أَنَّهُ إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: ٢٨] .

وَأَنَّهُ إنْ فَعَلَ فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَرْضٌ مُطْلَقٌ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: ١٧] . وَإِذَا تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا. وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَكَذَا الْعَكْسُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُرْمَةِ الْمُنْكَرِ بَاقٍ. لِمَا قُلْنَا مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقْدَمَ يَفُوتُ حَقُّهُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَوْ تُرِكَ يَفُوتُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى صُورَةً بِمُبَاشَرَةِ الْمَحْظُورِ وَتَرْكِ الْمَنْعِ عَنْهُ لَا مَعْنَى؛ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ وَاعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ بَاقٍ.

قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْغَازِي إذَا بَارَزَ) ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ وَحْدَهُ فَإِنْ كَانَ يَطْمَعُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ أَوْ يَنْكَأُ فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ النَّيْلَ مِنْ الْعَدُوِّ بِصُنْعِهِ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَبَشَّرَ بَعْضَهُمْ بِالشَّهَادَةِ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى يَوْمَ أُحُدٍ كَتِيبَةً مِنْ الْكُفَّارِ فَقَالَ مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ فَقَالَ وَهْبٌ أَنَا لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ ثُمَّ رَأَى كَتِيبَةً أُخْرَى وَقَالَ مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ فَقَالَ وَهْبٌ أَنَا لَهَا فَقَالَ أَنْتَ لَهَا، وَأَبْشِرْ بِالشَّهَادَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ وَقُتِلَ هُوَ» ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطْمَعْ فِي نِكَايَةٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الصَّنِيعُ؛ لِأَنَّهُ يُتْلِفُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا نِكَايَةٍ فِي الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ، وَلَا يَكُونُ عَامِلًا لِرَبِّهِ فِي إعْزَازِ الدِّينِ.

وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ يَقْتُلُونَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّقُ جَمْعُهُمْ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ هُنَاكَ مُسْلِمُونَ مُعْتَقِدُونَ لِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُنْكِئَ فِعْلُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُظْهِرُونَ ذَلِكَ، وَهَاهُنَا الْقَوْمُ كُفَّارٌ لَا يَعْتَقِدُونَ حَقِّيَّةَ الْإِسْلَامِ وَقَتْلُهُ لَا يُنْكِئُ فِي بَاطِنِهِمْ فَيُشْتَرَطُ النِّكَايَةُ ظَاهِرًا لِإِبَاحَةِ الْإِقْدَامِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نِكَايَةٍ، وَلَكِنَّهُ يُجَرِّئَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ بِفِعْلِهِمْ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ النِّكَايَةِ لِفِعْلِهِ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ فَكَذَا إذَا كَانَ يَطْمَعُ النِّكَايَةَ فِيهِمْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَطْمَعُ النِّكَايَةَ فِي إرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَإِدْخَالِ الْوَهْنِ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ وُجُوهِ النِّكَايَةِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَكُلُّ أَحَدٍ يَبْذُلُ نَفْسَهُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. وَفِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ نَكَأَتْ الْقُرْحَةُ قِشْرَتَهَا وَنَكَأْت فِي الْعَدُوِّ وَنَكَأَ إذَا قَتَلْت فِيهِمْ أَوْ جَرَحْت وَقَالَ اللَّيْث وَلُغَةٌ أُخْرَى نَكَيْت فِي الْعَدُوِّ نِكَايَةً

<<  <  ج: ص:  >  >>