للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاحْتَجَّ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ وَضْعٌ لِوُجُودِهِ، وَلَا وُجُودَ لَهُ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِهِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ حُكْمِهِ، وَأَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ فِعْلُ ضِدِّهِ إذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَأَمَّا إذَا تَعَدَّدَ الضِّدُّ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْكَفِّ عَنْهُ إتْيَانُ كُلِّ أَضْدَادِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْقِيَامِ إذَا قَعَدَ أَوْ نَامَ أَوْ اضْطَجَعَ فَقَدْ فَوَّتَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْ الْقِيَامِ لَا يُفَوِّتُ حُكْمَ النَّهْيِ بِأَنْ يَقْعُدَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يَضْطَجِعَ.

قَالَ: وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ كِتْمَانِ الْحَيْضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: ٢٢٨] ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِالْإِظْهَارِ؛ لِأَنَّ الْكِتْمَانَ ضِدُّهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِظْهَارُ

ــ

[كشف الأسرار]

وَنَحْوِهَا مِمَّا يُضَادُّ الصَّلَاةَ وَيَمْدَحُونَ تَارِكَ شُرْبِ الْخَمْرِ بِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ الْخَمْرَ لَا بِاشْتِغَالِهِ بِمَا يُضَادُّهُ مِنْ الْأَفْعَالِ. إلَّا أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَهَذَا مِمَّا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ كَيْفَ وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ غَيْرُ مَقْدُورٍ أَصْلًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: ١٧] . وَ {يَكْسِبُونَ} [يس: ٦٥] . وَنَحْوِهِمَا.

وَأَمَّا الْمَدْحُ فَلَيْسَ عَلَى الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الِامْتِنَاعِ الَّذِي هُوَ مَقْدُورُهُ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: ٤٣] . فَإِنَّهُ رَتَّبَ الْعُقُوبَةَ عَلَى عَدَمِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَرْتِيبُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ تَكُ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ لَهَا وَتَرْكُ الِاعْتِقَادِ فِعْلِيٌّ، وَهُوَ كُفْرٌ فَكَانَتْ الْعُقُوبَةُ بِنَاءً عَلَى الْكُفْرِ قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ الْجَصَّاصُ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْأَمْرِ بِكَذَا. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَنَى أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ مَذْهَبَهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يُوجِبُ الِائْتِمَارَ عَلَى الْفَوْرِ فَقَالَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الِائْتِمَارِ عَلَى الْفَوْرِ حُرْمَةُ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ وَالْحُرْمَةُ حُكْمُ النَّهْيِ فَكَانَ مُوجِبًا النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ بِحُكْمِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْإِيجَادِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى أَبْلَغِ الْجِهَاتِ وَالِاشْتِغَالُ بِضِدِّهِ بِعَدَمِ مَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ فَكَانَ حَرَامًا مَنْهِيًّا عَنْهُ بِمُقْتَضَى حُكْمِ الْأَمْرِ. وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ مَا يَكُونُ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، وَمَا يَكُونُ لَهُ أَضْدَادٌ؛ لِأَنَّهُ بِأَيِّ ضِدٍّ اشْتَغَلَ يَفُوتُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اُخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ سَوَاءٌ اشْتَغَلَ بِالْقُعُودِ فِيهَا أَوْ الِاضْطِجَاعِ أَوْ الْقِيَامِ يَفُوتُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ.

وَأَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ أَيْ النَّهْيُ لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَإِعْدَامُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ فَإِذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ إعْدَامُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَّا بِإِتْيَانِ ضِدِّهِ فَيَكُونُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ أَمْرًا بِضِدِّهِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ لَا يُوجِبُ أَمْرًا يُوجَدُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالضِّدِّ إنَّمَا يُثْبِتُ هَاهُنَا ضَرُورَةَ النَّهْيِ، وَإِمَّا تَرْتَفِعُ بِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِضِدٍّ وَاحِدٍ فَلَا يُجْعَلُ أَمْرًا بِجَمِيعِ الْأَضْدَادِ ثُمَّ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْأَمْرِ بِضِدٍّ وَاحِدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَضْدَادِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَلَا يَثْبُتُ. بِخِلَافِ جَانِبِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ إتْيَانَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِتَرْكِ جَمِيعِ الْأَضْدَادِ، وَتَرْكُ جَمِيعِ الْأَضْدَادِ مُتَصَوَّرٌ فَإِنَّ تَرْكَ أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْ وَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَصَوَّرٌ أَمَّا هَاهُنَا فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ حُكْمِ النَّهْيِ بِإِثْبَاتِ ضِدٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ السَّاعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا إثْبَاتُ أَفْعَالٍ شَتَّى، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُ فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ فَلَمْ نَجْعَلْهُ أَمْرًا بِهِ أَيْضًا. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ فِيمَا لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ لَا يَسْتَقِيمُ التَّصْرِيحُ بِالْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ نَهَيْتُك عَنْ التَّحَرُّكِ. وَأَبَحْت لَك السُّكُونَ أَوْ أَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي السُّكُونِ كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ تَحْرِيمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الِاشْتِغَالَ بِالضِّدِّ وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِيَانِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَضْدَادٌ فَيَسْتَقِيمُ التَّصْرِيحُ بِالْإِبَاحَةِ فِي جَمِيعِ الْأَضْدَادِ بِأَنْ يَقُولَ لَا تَسْكُنْ، وَأَبَحْت لَك التَّحَرُّكَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْت أَوْ يَقُولُ لَا تَقُمْ، وَأَبَحْت لَك مَا شِئْت مِنْ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَكَذَا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِهَذَا النَّهْيِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَضْدَادِ.

وَلَكِنْ مَنْ اخْتَارَ أَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَضْدَادِ غَيْرِ عَيْنٍ يَقُولُ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا أَمْرًا بِضِدِّهِ ضَرُورَةَ تَحْقِيقِ حُكْمِ النَّهْيِ، وَلَا يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُهُ إلَّا بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَى ضِدٍّ وَاحِدٍ يَثْبُتُ الْأَمْرُ بِضِدٍّ وَاحِدٍ غَيْرِ عَيْنٍ، وَالْأَمْرُ قَدْ يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ كَمَا فِي أَحَدِ أَنْوَاعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>