للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْمُحْرِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِلُبْسِ شَيْءٍ مُتَعَيِّنٍ مِنْ غَيْرِ الْمَخِيطِ، وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ أَدْنَى مَا يَثْبُتُ بِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِغَيْرِهِ ضَرُورَةً لَا يُسَاوِي الْمَقْصُودَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فَبِنَاءٌ عَلَى هَذَا، وَهُوَ إنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ أَمْرًا ضَرُورِيًّا سَمَّيْنَاهُ اقْتِضَاءً

ــ

[كشف الأسرار]

الْكَفَّارَةِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْجَصَّاصُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا لَهُ أَضْدَادٌ فِي النَّهْيِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْكِتَابِ. وقَوْله تَعَالَى. {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: ٢٢٨] . أَيْ مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ بِالْإِظْهَارِ وَلِهَذَا وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهَا فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْإِظْهَارِ. وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَبَاءَ، وَلَا الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ فَيَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» . وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِلُبْسِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ الْمَخِيطِ؛ لِأَنَّ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمِخْيَطُ أَضْدَادًا.، وَلَا يُقَالُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمَخِيطُ فَيَكُونُ ضِدُّهُ غَيْرَ الْمَخِيطِ، وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَصَارَ نَظِيرَ الْإِظْهَارِ مَعَ الْكِتْمَانِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ لِلْإِظْهَارِ وَالْكِتْمَانِ أَنْوَاعٌ بِخِلَافِ الْمَخِيطِ وَغَيْرِ الْمَخِيطِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْوَاعٌ، وَهُوَ كَالْقِيَامِ مَعَ تَرْكِ الْقِيَامِ فَإِنْ تَرَكَهُ لِمَا كَانَ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْفِعْلِ عَدَّ الْقِيَامِ مِمَّا لَهُ أَضْدَادٌ لَا مِمَّا لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ.

وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْجَصَّاصُ إلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ نُثْبِتُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ أَيْ النَّهْيِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ وَالْأَمْرِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ النَّهْيِ. أَدْنَى أَيْ دُونَ مَا يَثْبُتُ بِهِ أَيْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا وَرَدَ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ ضَرُورَةَ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الثَّابِتِ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا النَّهْيُ بِمَنْزِلَةِ نَهْيٍ وَرَدَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيَثْبُتُ بِهِ الْكَرَاهَةُ وَالْأَمْرُ بِمَنْزِلَةِ أَمْرٍ وَرَدَ لِحُسْنٍ فِي غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَثْبُتُ بِهِ كَوْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ سُنَّةً قَرِيبَةً إلَى الْوَاجِبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمَّا كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ تَأْخِيرُ السَّعْيِ أَوْ فَوَاتُهُ اقْتَضَى كَرَاهَةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا حُرْمَتَهُ حَتَّى بَقِيَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فَاسِدًا فَكَذَا هَذَا النَّهْيُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَضَى الْفَائِتَةَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ إلَّا لِلْوَقْتِيَّةِ يَجُوزُ وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ مَعَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ لَمَّا ثَبَتَ ضَرُورَةَ فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نَفْسِهَا بِالتَّحْرِيمِ، وَأَوْجَبَ الْكَرَاهَةَ بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّهُ وَرَدَ قَصْدًا فَلِذَلِكَ أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ فِي نَفْسِهِ.

وَأَوْجَبَ الْفَسَادَ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ) وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةً فَبِنَاءً عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى مَا ذَكَرَ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ أَنَّ الثَّابِتَ بِغَيْرِهِ لَا يُسَاوِي الثَّابِتَ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ النَّهْيُ الثَّابِتُ بِالْأَمْرِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ ضَرُورَةِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْوُجُودِ بِالْأَمْرِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ ضِدِّهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ فِي الضِّدِّ بِاقْتِضَاءِ الْأَمْرِ إلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِإِثْبَاتِ الْكَرَاهَةِ فَلَا يَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الضِّدِّ لَا إنَّهُ يُوجِبُهَا أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ مِثْلُ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ يَقْتَضِي سُنِّيَّةَ الضِّدِّ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ عَلَى قِيَاسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ يَثْبُتُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْمُقْتَضِي فِي أَيِّ أَضْدَادِهِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُخَاطَبُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ يُوجِبُ تَرْغِيبًا فِي وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَضْدَادِ غَيْرِ عَيْنٍ وَيَجُوزُ مِثْلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>