وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة: ٢٢٨] فَلَيْسَ بِنَهْيٍ بَلْ نَسْخٌ لَهُ أَصْلًا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: ٥٢] فَلَا يَصِيرُ الْأَمْرُ ثَابِتًا بِالنَّهْيِ بَلْ لِأَنَّ الْكِتْمَانَ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا لِمَا تَعَلَّقَ بِإِظْهَارِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَصَارَ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ أَمْرًا، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَفَائِدَةُ هَذَا أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ لَمْ يُعْتَبَرْ إلَّا مِنْ حَيْثُ يَفُوتُ الْأَمْرُ فَإِذَا لَمْ يَفُتْهُ كَانَ مَكْرُوهًا
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى مَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ فِي بَابِ النَّهْيِ.
وَكَوْنُهُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْعُقُوبَةِ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ قَوْلُهُ: (وَأَمَّا قَوْلُهُ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِ الْجَصَّاصُ بِالْإِجْمَاعِ فِي فَصْلِ النَّهْيِ أَيْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ. الْآيَةَ لَيْسَ بِنَهْيٍ كَمَا زَعَمَ الْجَصَّاصُ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِظْهَارِ ثَابِتًا بِهِ عَلَى مَا زَعَمَ بَلْ هُوَ نَسْخٌ لَهُ أَيْ رَفْعٌ لِجَوَازِ الْكِتْمَانِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ صِيغَةُ نَفْيٍ لَا نَهْيٍ. مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: ٥٢] . فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَهْيٍ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ التَّزَوُّجِ بَلْ هُوَ نَسْخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: ٥٠] .
وَلِلْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ الثَّابِتَةِ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُنَّ لَمَّا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ التَّخْيِيرِ جَازَاهُنَّ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَصْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِنَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: ٥٢] . أَيْ لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ سِوَى هَؤُلَاءِ اللَّاتِي اخْتَرْنَك مِنْ بَعْدَمَا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ثُمَّ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ» يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ قَدْ نُسِخَتْ. وَنَاسِخُهَا إمَّا السُّنَّةُ أَوْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: ٥٠] .
وَتَرْتِيبُ النُّزُولِ لَيْسَ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ كَذَا فِي الْمَطْلَعِ.
فَلَا يَصِيرُ الْأَمْرُ أَيْ الْأَمْرُ بِالْإِظْهَارِ. ثَابِتًا بِالنَّهْيِ أَيْ النَّهْيِ عَنْ الْكِتْمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ يُنْهِي عَنْهُ. بَلْ؛ لِأَنَّ الْكِتْمَانَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا أَيْ بَلْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِالْإِظْهَارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كِتْمَانَ مَا فِي الْأَرْحَامِ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لِتَعَلُّقِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِإِظْهَارِهِ مِنْ حَمْلِ الْقُرْبَانِ وَحُرْمَتِهِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِبَاحَةِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَغَيْرِهَا. فَصَارَ أَيْ هَذَا النَّصُّ بِوَاسِطَةِ عَدَمِ شَرْعِيَّةِ الْكِتْمَانِ أَمْرًا بِالْإِظْهَارِ إذْ لَا مَرْجِعَ إلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي أَرْحَامِهِنَّ إلَّا إلَيْهِنَّ، وَلِذَلِكَ غَلَّظَ عَلَيْهِنَّ فِي الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: ٢٢٨] . أَيْ الْكِتْمَانُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنَاتِ لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ، وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِعِقَابِهِ مَانِعٌ مِنْ الِاجْتِرَاءِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ. وَهَذَا أَيْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة: ٢٢٨] . مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» . فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْيٌ، وَلَيْسَ بِنَهْيٍ.
قَوْلُهُ (وَفَائِدَةُ هَذَا) الْأَصْلِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ضِدُّهُ فِي مَعْنَى سُنَّةٍ وَاجِبَةٍ أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ ضَرُورَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا. لَمْ يُعْتَبَرْ أَيْ لَمْ يُجْعَلْ التَّحْرِيمُ فِي الضِّدِّ ثَابِتًا. إلَّا مِنْ حَيْثُ تَفْوِيتُ الْأَمْرِ أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ يَعْنِي إنَّمَا يُجْعَلُ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا فِي الضِّدِّ إذَا أَدَّى الِاشْتِغَالُ بِهِ إلَى فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَرَامٌ. فَإِذَا لَمْ يُفَوِّتْهُ أَيْ لَمْ يُفَوِّتْ الضِّدُّ الْمَأْمُورَ بِهِ كَانَ الضِّدُّ مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا. ثُمَّ سِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ هَذَا يَنْزِعُ إلَى مَا قَالَ الْجَصَّاصُ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْجَصَّاصَ بَنَى حُرْمَةَ الضِّدِّ عَلَى فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَيْضًا كَمَا بَنَاهُ الشَّيْخُ فَلَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ مَعَهُ إلَّا فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُضَيَّقَ عَلَى الْفَوْرِ بِالِاتِّفَاقِ مِثْلُ الصَّوْمِ فَيَفُوتُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ حَصَلَ فَيَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ لِلتَّفْوِيتِ وَالْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى التَّرَاخِي بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَحْرُمُ الضِّدُّ إلَّا عِنْدَ تَضَيُّقِ الْوَقْتِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيتَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَهُ. وَيَكُونُ مَكْرُوهًا عَلَى مَا اخْتَارَ الشَّيْخُ وَيَنْبَغِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute