للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْنَةِ يُرَجِّحُ الرَّأْسَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ.

وَسَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ الْبَيْتُ؛ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: ٩٧] ، وَأَمَّا الْوَقْتُ فَهُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ شُرِعَ مُتَفَرِّقًا مُنْقَسِمًا عَلَى أَمْكِنَةٍ وَأَزْمِنَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَقْتِ الْحَجِّ فَلَمْ يَصْلُحْ تَغَيُّرُ التَّرْتِيبِ كَمَا لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَالْوُقُوفُ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ بِالْمَالِ فَشَرْطٌ لَا سَبَبٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَيَصِحُّ الْأَدَاءُ دُونَهُ مِنْ الْفَقْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا يَصْلُحُ الْمَالُ سَبَبًا لَهَا، وَلَكِنَّهَا عِبَادَةُ هِجْرَةٍ وَزِيَادَةٍ فَكَانَ الْبَيْتُ سَبَبًا لَهَا.

ــ

[كشف الأسرار]

فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إلَى الشَّيْءِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَأُضِيفَتْ الْحُجَّةُ إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ شَرْطُهَا فَقِيلَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ وَيُقَالُ بَنُو فُلَانٍ لِنَوَافِلِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فَأَمَّا تَضَاعُفُ الْوُجُوبِ بِتَضَاعُفِ الرُّءُوسِ فَأَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَقْبَلُ الِاسْتِعَارَةَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ، وَهَذَا لَيْسَ بِلَفْظٍ فَكَانَ التَّضَاعُفُ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَكَّمِ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ بِوَجْهٍ.، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَيْ الْوُجُوبُ بِسَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا الرَّأْسَ سَبَبًا وَالْوَقْتَ شَرْطَهَا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ يَتَكَرَّرُ هَذَا الْوَاجِبُ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ مَعَ اتِّحَادِ السَّبَبِ؟ . قُلْنَا لَمْ يَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ بَلْ بِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ وَالْمُؤْنَةُ أَبَدًا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا بِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ فَالشَّرْعُ جَعَلَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَقْتَ الْحَاجَةِ فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْفِطْرِ تَجَدَّدَتْ الْحَاجَةُ فَتَجَدَّدَ الْوُجُوبُ لِأَجْلِهِ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ إلَى الرَّأْسِ وَالْوَقْتِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَظٌّ مِنْ الْوُجُوبِ بِحُكْمِ الْإِضَافَةِ وَذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا الرَّأْسَ سَبَبًا وَالْوَقْتُ زَمَانُ الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّصَالٌ بِالْوُجُوبِ لِأَحَدِهِمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ وَلِلْآخَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرْطٌ فَأَمَّا إذَا جَعَلْنَا الْفِطْرَ سَبَبًا فَلَا يَبْقَى لِلرَّأْسِ اتِّصَالٌ بِالْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ شَيْءٌ لِيَجْعَلَ الرَّأْسَ شَرْطًا بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّيَّةِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى لِأَجْلِهِ فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى رَأْسِ الْعَبْدِ فَأَيُّ اتِّصَالٍ يَبْقَى لَهُ بِالْوَاجِبِ فَلَا وَجْهَ لِهَذَا فَثَبَتَ أَنَّ الرَّأْسَ سَبَبٌ (فَإِنْ قِيلَ) نَجْعَلُ الرَّأْسَ شَرْطًا مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى لَا مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا جَعَلْتُمْ الْوَقْتَ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِ الرَّأْسِ (قُلْنَا) حِينَئِذٍ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الرَّأْسُ، وَإِنَّمَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ، وَإِنْ اتَّحَدَ الشَّرْطُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الرَّأْسِ بِالِاتِّفَاقِ فَدَلَّ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الرَّأْسُ، وَالْوَقْتُ شَرْطُ الْوُجُوبِ كَوَقْتِ الْحَجِّ. وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْنَةِ يُرَجِّحُ الرَّأْسَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ وَجَبَتْ وُجُوبَ الْمُؤَنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَجْرَاهَا مَجْرَى الْمُؤَنِ فِي قَوْلِهِ «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» . أَيْ تَحَمَّلُوا هَذِهِ الْمُؤْنَةَ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ مُؤْنَتُهُمْ.

وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْمُؤَنِ رَأْسٌ يَلِي عَلَيْهِ لَا الْوَقْتُ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ تَجِبُ بِالرَّأْسِ لَا بِالْوَقْتِ إذْ الرَّأْسُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْمُؤْنَةِ دُونَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الشَّيْءِ سَبَبٌ لِبَقَائِهِ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي الرَّأْسِ دُونَ الْوَقْتِ فَكَانَ الرَّأْسُ سَبَبَ الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَالْفِطْرُ عَنْ رَمَضَانَ شَرْطُهُ كَالْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمُرَادُ بِالْفِطْرِ الْيَوْمُ لَا الْفِطْرُ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كُلَّ لَيْلَةٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ فِطْرًا مَخْصُوصًا، وَهُوَ الْفِطْرُ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَتَّصِفُ بِهِمَا وَاللَّيْلُ لَا يَتَّصِفُ بِالصَّوْمِ شَرْعًا وَالْفِطْرُ بِنَاءً عَلَيْهِ فَكَانَ الْيَوْمُ وَقْتًا لَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ مِنْهُ أَيْ مِنْ هَذَا الْوَاجِبِ فِي مَوْضِعِهِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي نُسْخَةٍ مِنْ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي صَنَّفَهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةِ دِينِهِ، وَإِصْلَاحِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةِ نَفْسِهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الصَّدَقَةُ مُؤْنَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَجَبَتْ لِإِصْلَاحِ عِبَادَةِ الصَّوْمِ حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صَدَقَةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» . وَالنَّفَقَةُ لِإِصْلَاحِ الْبَدَنِ وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فِيهَا.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ أَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَدَقَةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِينَ وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ» فَقَوْلُهُ طُهْرَةٌ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَقَوْلُهُ طُعْمَةٌ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْوَصْفَيْنِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْمُؤْنَةِ فَتَعَلَّقَتْ بِرَأْسٍ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ وَالْمُؤْنَةَ مِنْ بَابِ الْغَرَامَةِ لِيَكُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>