للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَهُ قَوْمٌ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ وَيَدُومُ هَذَا الْحَدُّ فَيَكُونُ آخِرُهُ كَأَوَّلِهِ، وَأَوْسَطُهُ كَطَرَفَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ نَقْلِ الْقُرْآنِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ

ــ

[كشف الأسرار]

مَا دُونَهَا كَأَرْبَعَةٍ بَيِّنَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجُوزُ لِلْقَاضِي عَرْضُهَا عَلَى الْمُزَكِّينَ لِيَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِقَوْلِ الْأَرْبَعَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.

وَقِيلَ اثْنَا عَشَرَ بِعَدَدِ نُقَبَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ خُصُّوا بِذَلِكَ الْعَدَدِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِمْ. وَقِيلَ أَرْبَعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: ٦٤] .، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ فَلَوْ لَمْ يُفْدِ قَوْلُهُمْ الْعِلْمَ لَمْ يَكُونُوا حَسَبًا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى مَنْ يَتَوَاتَرُ بِهِ أَمْرُهُ. وَقِيلَ سَبْعُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: ١٥٥] وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ لِمَا مَرَّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ تَحَكُّمَاتٌ فَاسِدَةٌ، وَأَنَّ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ لَيْسَ شُبْهَةً فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ؛ لِأَنَّهَا مَعَ تَعَارُضِهَا وَعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا الْمَطْلُوبَ مُضْطَرِبَةٌ إذْ مَا مِنْ عَدَدٍ يُفْرَضُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِهِ لِقَوْمٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِهِ لِآخَرِينَ وَلِلْأَوَّلِينَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَدَدُ هُوَ الضَّابِطُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَمَا اخْتَلَفَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي عَدَدٍ مَخْصُوصٍ.

وَضَابِطُهُ مَا حَصَلَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ فَبِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي هُوَ كَامِلٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَوَافَقُوا عَلَى الْأَخْبَارِ لَا أَنَّا نَسْتَدِلُّ بِكَمَالِ الْعَدَدِ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِعَدَدٍ أَنَّا نَقْطَعُ بِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ أَصْلًا بَلْ لَوْ كَلَّفْنَا أَنْفُسَنَا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْحَالَةَ الَّتِي يَكْمُلُ فِيهَا لَمْ نَجِدْ إلَيْهَا فِي الْعَادَةِ سَبِيلًا؛ لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِتَزَايُدِ الظُّنُونِ عَلَى تَدْرِيجٍ خَفِيٍّ كَمَا يَحْصُلُ كَمَالُ الْعَقْلِ بِالتَّدْرِيجِ، وَكَمَا يَحْصُلُ الشِّبَعُ بِالْأَكْلِ، وَالرَّيُّ بِالْمَاءِ وَالسُّكْرُ بِالْخَمْرِ بِالتَّدْرِيجِ وَالْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ قَاصِرَةٌ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. ثُمَّ لَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى شُرُوطٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِقَوْلِهِ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ، وَقَوْلُهُ وَيَدُومُ هَذَا الْحَدُّ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى شَرْطٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا.

وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ أَيْ صَيْرُورَتُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْمُوعِ أَنْ يَرْوِيَهُ قَوْمٌ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ خُرُوجِ عَدَدِ الْمُخْبِرِينَ عَنْ الْإِحْصَاءِ وَالْحَصْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَوْمٌ؛ لِأَنَّهُمْ مَتَى كَانُوا مُحْصِينَ كَانَ لِإِمْكَانِ التَّوَاطُؤِ مَدْخَلٌ فِي خَبَرِهِمْ عَادَةً فَشُرِطَ خُرُوجُهُمْ عَنْ الْإِحْصَاءِ وَالْحَصْرِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْإِمْكَانِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّ الْحَجِيجَ أَوْ أَهْلَ الْجَامِعِ لَوْ أَخْبَرُوا عَنْ وَاقِعَةٍ صَدَّتْهُمْ عَنْ الْحَجِّ أَوْ عَنْ الصَّلَاةِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مَحْصُورِينَ.

وَقَوْلُهُ: وَعَدَالَتِهِمْ يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ كَمَا قَالَهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَدَالَةَ ضَابِطَا الصِّدْقِ وَالتَّحْقِيقِ، وَالْكُفْرَ وَالْفِسْقَ مَظِنَّتَا الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ فَشُرِطَ عَدَمُهُمَا. وَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْقَطْعِ، وَقَوْلُهُ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ أَيْ تَبَاعُدِهَا يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ اخْتِلَافِ بُلْدَانِهِمْ أَوْ أَوْطَانِهِمْ وَمَحَلَّاتِهِمْ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي دَفْعِ إمْكَانِ التَّوَاطُؤِ. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ أَيْضًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ مُتَوَطِّنِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْكَثْرَةِ إلَى كَمَالِ الْعَدَدِ كَمَا بَيَّنَّا يَدْفَعُ هَذَا الْإِمْكَانَ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ إنَّمَا أَشَارَ إلَى هَذِهِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّهَا أَقْطَعُ لِلِاحْتِمَالِ، وَأَظْهَرُ فِي الْإِلْزَامِ عَلَى الْخُصُومِ، لَا لِأَنَّهَا شَرْطٌ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ عَلَيْهَا بَلْ الشَّرْطُ فِيهِ حَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ بَدْءًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ أَخْبَارِ الْمَجُوسِ، وَأَخْبَارِ الْيَهُودِ بِأَنَّ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ لَمْ يُوجَدْ، وَلَمْ يُجِبْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَفَرَةً فَلَا يَكُونُ تَوَاتُرُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ حَتَّى صَارَ كَالْمُعَايَنِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ أَيْ حَتَّى صَارَ هَذَا الْخَبَرُ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا عَايَنْتَ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ بِحَاسَّةِ سَمْعِكَ، وَلَيْسَ لَفْظُ الْمُعَايَنِ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>