وَمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَهُمْ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَالَجَهُ شَكٌّ أَوْ يَعْتَرِيَهُ وَهْمٌ قَالُوا إنَّ الْمُتَوَاتَرَ صَارَ جَمْعًا بِالْآحَادِ، وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُحْتَمَلٌ، وَالِاجْتِمَاعُ يَحْتَمِلُ التَّوَاطُؤَ وَذَلِكَ كَإِخْبَارِ الْمَجُوسِ قِصَّةَ زَرَادُشْتَ اللَّعِينِ، وَإِخْبَارِ الْيَهُودِ صَلْبَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّيْغِ بَعْدَ الْهُدَى. بَلْ الْمُتَوَاتِرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ ضَرُورَةً بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ بِالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ بِالْأُذُنِ وَضْعًا وَتَحْقِيقًا أَمَّا الْوَضْعُ فَإِنَّا نَجِدُ الْمَعْرِفَةَ بِآبَائِنَا بِالْخَبَرِ مِثْلَ الْمَعْرِفَةِ بِأَوْلَادِنَا عِيَانًا وَنَجِدُ الْمَعْرِفَةَ بِأَنَّا مَوْلُودُونَ نَشَأْنَا عَنْ صِغَرٍ مِثْلَ مَعْرِفَتِنَا بِهِ فِي أَوْلَادِنَا وَتَجِدُ الْمَعْرِفَةَ بِجِهَةِ الْكَعْبَةِ خَبَرًا مِثْلَ مَعْرِفَتِنَا بِجِهَةِ مَنَازِلِنَا سَوَاءٌ، وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فَلِأَنَّ الْخَلْقَ خُلِقُوا عَلَى هِمَمٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَطَبَائِعَ مُتَبَايِنَةٍ لَا تَكَادُ تَقَعُ أُمُورُهُمْ إلَّا مُخْتَلِفَةً فَلَمَّا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ كَانَ ذَلِكَ لِدَاعٍ إلَيْهِ، وَهُوَ سَمَاعٌ أَوْ اخْتِرَاعٌ وَبَطَلَ الِاخْتِرَاعُ؛ لِأَنَّ تَبَايُنَ الْأَمَاكِنِ وَخُرُوجَهُمْ عَنْ الْإِحْصَاءِ مَعَ الْعَدَالَةِ يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ فَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْآخَرُ
ــ
[كشف الأسرار]
بِالْخَبَرِ كَمَا عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ وَلَدِهِ بِالْعِيَانِ. وَعَلِمَ أَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ كَانَتَا قَبْلَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْخَبَرِ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لِلْحَالِ بِالْعِيَانِ فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مُكَابِرٌ جَاحِدٌ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَنْكَرَ الْعِيَانَ قَوْله (وَمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَهُمْ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَخَالَجَهُ) أَيْ يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ، أَوْ يَعْتَرِيَهُ أَيْ يَغْشَاهُ وَيَدْخُلَهُ وَهْمٌ أَيْ غَلَطٌ مِنْ وَهَمَ يَهِمُ إذَا غَلِطَ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّا نُوَافِقُهُمْ فِي أَنَّهُ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ أَيْضًا، وَلَكِنَّا نَعْنِي بِالطُّمَأْنِينَةِ الْيَقِينَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْيَقِينِ أَيْضًا لِاطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: ٢٦٠] . أَرَادَ بِهِ كَمَالَ الْيَقِينِ فَقَالَ مَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ كَذَا لِيَتَحَقَّقَ الْخِلَافُ قَالُوا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ صَارَ جَمْعًا بِالْآحَادِ وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ بِانْضِمَامِ الْمُحْتَمَلِ إلَى الْمُحْتَمَلِ لَا يَزْدَادُ إلَّا الِاحْتِمَالُ إذْ لَوْ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ.
وَلَمْ يَجُزْ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ لَانْقَلَبَ الْجَائِزُ مُمْتَنِعًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَثَبَتَ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ مُحْتَمَلٌ لِلتَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُخْبِرِ غَيْرَ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ مَوْجُودٌ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَإِذَا جَازَ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ انْتَفَى الْيَقِينُ عَنْ خَبَرِهِمْ عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْآرَاءِ، وَقَصْدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ وَوُقُوعُ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصَوُّرِهِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ إذَا انْتَفَى الْيَقِينُ عَنْهُ فَأَمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِهِ ظَنٌّ كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ أَوْ طُمَأْنِينَةٌ كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَذَلِكَ أَيْ الِاجْتِمَاعُ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ مِثْلُ إخْبَارِ الْمَجُوسِ عَنْ زَرَادُشْتَ اللَّعِينِ فَإِنَّهُ خَرَجَ فِي زَمَنِ مَلِكٍ يُسَمَّى كشتاسب بِبَلْخٍ وَادَّعَى الرِّسَالَةَ مِنْ أَصْلَيْنِ قَدِيمَيْنِ وَآمَنَ بِهِ الْمَلِكُ، وَأَطْبَقَتْ الْمَجُوسُ عَلَى نَقْلِ مُعْجِزَاتِهِ، وَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنَّا عَدَدًا ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ كَذِبًا بِيَقِينٍ إذْ لَوْ كَانَ صِدْقًا لَزِمَ مِنْهُ صِحَّةُ دَعْوَاهُ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ بِيَقِينٍ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصَلْبِهِ وَالنَّصَارَى وَافَقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَنَقَلُوا ذَلِكَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَعَدَدُهُمْ لَا يَخْفَى كَثْرَةً وَوُفُورًا ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ كَذِبُهُمْ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ فَثَبَتَ أَنَّ احْتِمَالَ الْكَذِبِ لَا يَنْقَطِعُ بِالتَّوَاتُرِ، وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ، وَلَكِنْ يَثْبُتُ بِهِ طُمَأْنِينَةٌ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْلَمُ حَيَاةَ رَجُلٍ ثُمَّ يَمُرُّ بِدَارِهِ فَيَسْمَعُ النَّوْحَ وَيَرَى آثَارَ التَّهَيُّؤِ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ فَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَيَتَبَدَّلُ بِهَذَا الْحَادِثِ عِلْمُهُ بِحَيَاتِهِ بِعِلْمِهِ بِمَوْتِهِ عَلَى وَجْهِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حِيلَةٌ مِنْهُمْ وَتَلْبِيسٌ لِغَرَضٍ كَانَ لِأَهْلِهِ فِي ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
وَهَذَا أَيْ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ لَا يَقِينٍ قَوْلٌ بَاطِلٌ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ وُجُودَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُعْجِزَاتِهِمْ لَا يَثْبُتُ خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا إلَّا بِالنَّقْلِ فَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْمُتَوَاتِرُ يَقِينًا لَا يَثْبُتُ الْعِلْمُ لِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا بِنُبُوَّتِهِمْ وَحَقِّيَّتِهِمْ حَقِيقَةً، وَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ، وَضْعًا أَيْ يُوجِبُ بِوَضْعِهِ وَذَاتِهِ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى اسْتِدْلَالٍ، وَتَحْقِيقًا أَيْ يَدُلُّ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْيَقِينَ لَوْ رَجَعَتْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقَعَ اتِّفَاقًا أَوْ لِلتَّدَيُّنِ أَوْ لِلْمُوَاضَعَةِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ أَوْ لِدَاعٍ دَعَاهُمْ إلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ صُدُورَ الْكَذِبِ اتِّفَاقًا مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ خَرَجُوا عَنْ حَدِّ الْإِحْصَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ عَادَةً كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى مَأْكَلٍ وَاحِدٍ، وَمَشْرَبٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ اتِّفَاقًا. وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ مِثْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْكَذِبِ تَدَيُّنًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute