للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَرَجُلٍ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ إلَى شَيْءٍ وَيُدْرِكُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَهُ بِإِشَارَةِ لَحَظَاتِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: ٨] إنَّمَا سَبَقَ النَّصُّ لِاسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْجَمَةِ لِمَا سَبَقَ وَاسْمُ الْفُقَرَاءِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ

ــ

[كشف الأسرار]

بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إلَى تَعْلِيلِ تَسْمِيَةِ هَذَا الْقِسْمِ إشَارَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ فَسَمَّيْنَاهُ إشَارَةً بِالْفَاءِ.

وَقَوْلُهُ كَرَجُلٍ إلَى آخِرِهِ تَشْبِيهٌ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّظْمِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي ضِمْنِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِمَا أُدْرِكَ بِالْبَصَرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي ضِمْنِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِ الْبَلَاغَةِ كَمَا أَنَّ إدْرَاكَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِالنَّظَرِ مَعَ إدْرَاكِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ كَمَالِ قُوَّةِ الْإِبْصَارِ، وَاللَّحْظُ النَّظَرُ بِمُؤَخِّرِ الْعَيْنِ وَيُدْرِكُ غَيْرَهُ بِإِشَارَةِ لَحَظَاتِهِ أَيْ بِلَحَظَاتِهِ وَكَأَنَّهَا تُشِيرُ النَّاظِرَ إلَى مَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ لِيُدْرِكَهُ، الضَّمِيرُ فِي نَظِيرِهِ رَاجِعٌ إلَى مَا فِي قَوْلِهِ مَا ثَبَتَ بِنَظْمِهِ لُغَةً، عَلَى سَبِيلِ التَّرْجَمَةِ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ التَّفْسِيرِ وَمِنْهُ التُّرْجُمَانُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْجِيمِ وَضَمِّهِمَا لِمَنْ يُفَسِّرُ كَلَامَ الْغَيْرِ، لِمَا سَبَقَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: ٤١] ، لَا لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ، {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: ٧] ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ} [الحشر: ٨] بَدَلٌ مِمَّا ذَكَرْنَا بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ لَا مِنْ قَوْلِهِ {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: ٧] وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَرَسُولُهُ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَقِيرِ كَيْفَ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ رَسُولَهُ عَنْ الْفُقَرَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ، {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: ٨] ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكَشَّافِ.

وَقِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ وَاوٍ كَمَا يُقَالُ هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ لِبَكْرٍ لِعَمْرٍو كَذَا فِي التَّيْسِير فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ تَرْجَمَةً لِمَا سَبَقَ بَلْ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفٍ آخَرَ، وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ السَّوْقُ لِبَيَانِ مَصَارِفِ الْخُمُسِ، وَاسْمُ الْفُقَرَاءِ أَيْ وَذَكَرَ هَذَا الِاسْمَ دُونَ غَيْرِهِ إشَارَة إلَى أَنَّ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ قَدْ زَالَتْ أَمْلَاكُهُمْ عَمَّا خَلَفُوا بِهَا بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْفَقْرِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَيَاسِيرَ بِمَكَّةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: ٨] ، وَالْفَقْرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ لَا يُبْعِدُ الْيَدَ عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ضِدَّهُ الْغِنَى، وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِ لَا قُرْبُ الْيَدِ مِنْ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ غَنِيٌّ حَقِيقَةً؛ وَإِنْ بَعُدَتْ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمُكَاتَبُ فَقِيرٌ حَقِيقَةً وَلَوْ أَصَابَ مَالًا عَظِيمًا لِعَدَمِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً؛ فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ اسْتِيلَاءَهُمْ بِشَرْطِ الْأَحْرَارِ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَسَمَّاهُمْ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ بَعُدَتْ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَهَذِهِ مِنْ الْإِشَارَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَعْمَلْ بِهَا، وَقَالَ إنَّمَا سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ وَلَمْ يُسَمِّهِمْ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ وَيَطْمَعُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُسَافِرِينَ بِالْمَدِينَةِ بَلْ تَوَطَّنُوا بِهَا وَانْقَطَعَتْ أَطْمَاعُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ فَلَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يُسَمَّوْا بِابْنِ السَّبِيلِ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُحْتَاجِينَ حَقِيقَةً وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ ثَمَرَاتُ أَمْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِمْ صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُمْ فُقَرَاءَ تَجَوُّزًا كَأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُمْ أَصْلًا كَمَا صَحَّتْ تَسْمِيَةُ الْكَافِرِ أَصَمَّ وَأَعْمَى وَأَبْكَمَ وَعَدِيمَ الْعَقْلِ فِي قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: ١٧١] .

بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صَرْفِهِ إلَى الْمَجَازِ قَوْله تَعَالَى، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: ١٤١] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ السَّبِيلِ الْحِسِّيِّ بِالْإِجْمَاعِ فَيَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى السَّبِيلِ الشَّرْعِيِّ وَالتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ أَقْوَى جِهَاتُ السَّبِيلِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>