للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ حَدِيثُهُ فِي السَّلَفِ فَلَمْ يُقَابَلْ بِرَدٍّ، وَلَا قَبُولٍ لَمْ يُتْرَكْ بِهِ الْقِيَاسُ وَلَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ لَكِنْ الْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلِذَلِكَ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ حَتَّى أَنَّ رِوَايَةَ مِثْلِ هَذَا الْمَجْهُولِ فِي زَمَانِنَا لَا تُحِلُّ الْعَمَلَ بِهِ لِظُهُورِ الْفِسْقِ فَصَارَ الْمُتَوَاتِرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَالْمَشْهُورُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِلْمَ غَالِبِ الرَّأْيِ وَالْمُسْتَنْكَرُ مِنْهُ يُفِيدُ الظَّنَّ {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: ٢٨] وَالْمُسْتَتِرُ مِنْهُ فِي حَيِّزِ الْجَوَازِ لِلْعَمَلِ بِهِ دُونَ الْوُجُوبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

ــ

[كشف الأسرار]

الْجَوَازِ، وَلَا فِي حَقِّ الْوُجُوبِ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ إذَا انْفَرَدَ الرَّاوِي بِشَيْءٍ فَإِنْ كَانَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ لِذَلِكَ وَالضَّبْطِ كَانَ مَا انْفَرَدَ بِهِ شَاذًّا مَرْدُودًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ رَوَاهُ هُوَ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ عَدْلًا حَافِظًا مَوْثُوقًا بِإِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ قُبِلَ مَا انْفَرَدَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُوثَقُ بِحِفْظِهِ كَانَ انْفِرَادُهُ بِهِ جَازِمًا لَهُ مُزَحْزِحًا لَهُ عَنْ حَيِّزِ الصَّحِيحِ ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ دَائِرٌ بَيْنَ مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ بِحَسَبِ الْحَالِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِهِ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ دَرَجَةِ الْحَافِظِ الضَّابِطِ الْمَقْبُولِ تَفَرُّدُهُ اسْتَحْسَنَّا حَدِيثَهُ ذَلِكَ وَلَمْ نَحُطَّهُ إلَى قَبِيلِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ ذَلِكَ رَدَدْنَا مَا انْفَرَدَ بِهِ وَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الشَّاذِّ الْمُنْكَرِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّاذَّ الْمَرْدُودَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا الْحَدِيثُ الْفَرْدُ الْمُخَالِفُ وَالثَّانِي الْفَرْدُ الَّذِي لَيْسَ فِي رَاوِيهِ مِنْ الثِّقَةِ وَالضَّبْطِ مَا يَقَعُ جَابِرًا لِمَا يُوجِبُهُ التَّفَرُّدُ وَالشُّذُوذُ مِنْ النَّكَارَةِ وَالضَّعْفِ ثُمَّ قَالَ وَالصَّوَابُ فِي الْمُنْكَرِ التَّفْصِيلُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الشَّاذِّ فَإِنَّهُ بِمَعْنَاهُ فَالْمُنْكَرُ يَكُونُ قِسْمَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّاذِّ، قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ حَدِيثُهُ) أَيْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ هَذَا الْمَجْهُولِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ مِنْهُمْ رَدٌّ، وَلَا قَبُولٌ فَلَمْ يُتْرَكْ بِهِ الْقِيَاسُ وَلَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ فِي زَمَانِنَا يَعْنِي إذَا ظَهَرَ حَدِيثُهُ فِي زَمَانِنَا لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ يَجُوزُ إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَالْعَدَالَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ غَلَبَةِ الْعَدَالَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الظَّاهِرِ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي السَّلَفِ يَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْوَهْمِ فِيهِ فَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ عَلَى وَجْهِ حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ شَرْعًا لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذَا الطَّرِيقِ الضَّعِيفِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا وَافَقَهُ الْقِيَاسُ وَلَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ فَمَا فَائِدَةُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ قُلْنَا: هِيَ جَوَازُ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ نَافِي الْقِيَاسِ مِنْ مَنْعِ هَذَا الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى الْحَدِيثِ.

؛ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِ الْعَدَالَةِ أَصْلًا فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ أَيْ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَالْغَالِبُ عَلَى أَهْلِهِ الصِّدْقُ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَخَبَرُ مِثْلِ هَذَا الْمَجْهُولِ لَا يُقْبَلُ، وَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يَتَأَيَّدْ بِقَبُولِ الْعُدُولِ لِغَلَبَةِ الْفِسْقِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي زَمَانِ فُشُوِّ الْكَذِبِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ إنْ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ أَوْ التَّابِعُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِمَا رَوَى يَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الرَّاوِي بِالْعَدَالَةِ وَثُبُوتِ مَا رَوَى وَأَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، وَلَا عَمَلُ التَّابِعِينَ فَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ فَإِذَا خَالَفَهُ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حِينَئِذٍ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يُوَافِقْ الْقِيَاسَ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَهِيَ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْأَخْبَارِ فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ فِي الْمُفَوِّضَةِ.

وَأَصْحَابُنَا قَالُوا الظَّاهِرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>