وَأَمَّا الضَّبْطُ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ سَمَاعُ الْكَلَامِ كَمَا يَحِقُّ سَمَاعُهُ ثُمَّ فَهْمُهُ بِمَعْنَاهُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ ثُمَّ حِفْظُهُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ لَهُ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ بِمُحَافَظَةِ حُدُودِهِ مُرَاقَبَتِهِ بِمُذَاكَرَتِهِ عَلَى إسَاءَةِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ إلَى حِينِ أَدَائِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَقْبُولَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ التَّحَمُّلُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَكَذَا الرِّوَايَةُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى قَبُولِ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَهُ وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى إحْضَارِ الصِّبْيَانِ مَجَالِسَ الرِّوَايَةِ وَإِسْمَاعِهِمْ الْأَحَادِيثَ وَقَبُولِ رِوَايَةِ مَا تَحَمَّلُوهُ فِي الصِّبَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ثُمَّ قِيلَ أَقَلُّ مُدَّةٍ يَصِيرُ الصَّبِيُّ فِيهَا أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ: أَرْبَعُ سِنِينَ لِحَدِيثِ «مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ حَفِظْت مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي وَجْهِي مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ مُعَلَّقَةً فِي دَارِهِمْ» وَكَانَ ابْنُ أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ خَمْسَ سِنِينَ وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا تَقْدِيرَ.
وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا عِنْدَ التَّحَمُّلِ عَدْلًا مُسْلِمًا عِنْدَ الرِّوَايَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ فِي النَّصْرَانِيِّ وَالْمَمْلُوكِ وَالصَّبِيِّ يَشْهَدُونَ شَهَادَةً فَلَا يُدْعَوْنَ لَهَا حَتَّى يُسْلِمَ هَذَا وَيَعْتِقَ هَذَا وَيَحْتَلِمَ هَذَا ثُمَّ يَشْهَدُونَ بِهَا فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي الشَّهَادَةِ فَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَوْسَعُ فِي الْحُكْمِ مِنْ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا حَفِظُوهَا قَبْلَ إسْلَامِهِمْ وَأَدَّوْهَا بَعْدَهُ كَذَا فِي الْكِفَايَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ أَيْ وَكَالصَّبِيِّ الْمَعْتُوهُ وَهُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ صِبًا وَلَا جُنُونٍ فَيُشْبِهُ كَلَامُهُ وَأَفْعَالُهُ تَارَةً بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ وَأَفْعَالِهِمْ وَتَارَةً بِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ وَأَفْعَالِهِمْ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَقْلِ بِالْعَتَهِ فَوْقَ النُّقْصَانِ بِالصِّبَا إذْ الصَّبِيُّ قَدْ يَكُونُ أَعْقَلَ مِنْ الْبَالِغِ، وَلَا يَكُونُ الْمَعْتُوهُ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: ١٢] فَكَانَ خَبَرُهُ أَوْلَى بِالرَّدِّ مِنْ خَبَرِ الصَّبِيِّ وَقَوْلُهُ ثُمَّ هُوَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ مُتَفَاوِتٌ بَيَانُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْعَقْلِ أَيْ الْقَاصِرِ مَا يُقَارِنُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِهِ وَهُوَ الصِّبَا وَالْكَامِلُ لَا حَدَّ لِأَعْلَاهُ، وَلَا يُدْرَكُ إذْ هُوَ فِي التَّزَايُدِ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْقِسْمَةِ مُتَفَاوِتٌ فَاعْتُبِرَ أَدْنَى دَرَجَاتِ كَمَالِهِ وَذَلِكَ خَفِيٌّ أَيْضًا فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ وَاعْتِدَالِهِ بَيَانُ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، قَوْلُهُ.
(وَأَمَّا الضَّبْطُ) فَكَذَا ضَبْطُ الشَّيْءِ لُغَةً حِفْظُهُ بِالْجَزْمِ وَمِنْهُ الْأَضْبَطُ الَّذِي يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ وَضَبْطُ الْخَبَرِ سَمَاعُهُ كَمَا يَحِقُّ سَمَاعُهُ بِأَنْ يَصْرِفَ هِمَّتَهُ إلَيْهِ وَيُقْبِلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَشِذَّ مِنْهُ وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ ثُمَّ فَهِمَهُ أَيْ فَهِمَ الْكَلَامَ مُلْتَبِسًا بِمَعْنَاهُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ يَعْنِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ أَوْ اللُّغَوِيَّ وَالشَّرْعِيَّ جَمِيعًا ثُمَّ حَفِظَهُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ لَهُ أَيْ حَفِظَ الْكَلَامَ بِبَذْلِ الطَّاقَةِ فِي حِفْظِهِ بِأَنْ يُكَرِّرَهُ إلَى أَنْ يَحْفَظَهُ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْحِفْظِ بِمُحَافَظَةِ حُدُودِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِأَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِهِ بِبَدَنِهِ وَيُذَاكِرَهُ بِلِسَانِهِ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ وَالْمُذَاكَرَةِ يُورِثُ النِّسْيَانَ عَلَى إسَاءَةِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ بِأَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى نَفْسِهِ: أَنِّي لَا أَنْسَاهُ، وَلَا يُسَامِحُ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ بَلْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ وَيُذَاكِرَهُ دَائِمًا مُقَدِّرًا فِي نَفْسِهِ: أَنِّي إذَا تَرَكْت الْمُذَاكَرَةَ نَسِيَتُهُ إذْ الْجَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا رَوَى حَدِيثًا أَخَذَهُ الْبُهْرُ وَجَعَلَتْ فَرَائِصُهُ تَرْتَعِدُ بِاعْتِبَارِ سُوءِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الزُّهْدِ وَالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْفَقَاهَةِ إلَى حِينِ أَدَائِهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا فَسَّرَ الضَّبْطَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ بِدُونِ السَّمَاعِ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَهْمُ وَبَعْدَ السَّمَاعِ إذَا لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى الْكَلَامِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَمَاعًا مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ سَمَاعُ صَوْتٍ لَا سَمَاعَ كَلَامٍ هُوَ خَبَرٌ وَبَعْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى يَتِمُّ التَّحَمُّلُ وَذَلِكَ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ كَمَا تَحَمَّلَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِالْحِفْظِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ، ثُمَّ الْأَدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute