وَهُوَ نَوْعَانِ: ضَبْطُ الْمَتْنِ بِصِيغَتَيْهِ وَمَعْنَاهُ لُغَةً، وَالثَّانِي أَنْ يَضُمَّ إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ضَبْطَ مَعْنَاهُ فِقْهًا وَشَرِيعَةً وَهَذَا أَكْمَلُهُمَا وَالْمُطْلَقُ مِنْ الضَّبْطِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ مَنْ اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ خِلْقَةً أَوْ مُسَامَحَةً وَمُجَازَفَةً حُجَّةً لِعَدَمِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الضَّبْطِ؛ وَلِهَذَا قَصُرَتْ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ مَنْ عُرِفَ بِالْفِقْهِ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا فِي التَّرْجِيحِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ نَقْلَ الْقُرْآنِ مِمَّنْ لَا ضَبْطَ لَهُ جُعِلَ حُجَّةً
ــ
[كشف الأسرار]
بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصِّدْقِ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِهَذَا؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ أَبُو حَنِيفَةَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ لِمَنْ عَرَفَ خَطَّهُ فِي الصَّكِّ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ضَابِطٍ لِمَا تَحَمَّلَ وَبِدُونِ الضَّبْطِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ الضَّبْطُ نَوْعَانِ ضَبْطُ الْمَتْنِ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ لُغَةً أَيْ الضَّبْطِ نَفْسِ الْحَدِيثِ وَلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَتَصْحِيفٍ مَعَ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، مِثْلُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» بِالرَّفْعِ أَوْ النَّصْبِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ الرَّفْعِ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ النَّصْبِ بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ فَهَذَا هُوَ ضَبْطُ الصِّيغَةِ بِمَعْنَاهَا لُغَةً وَالثَّانِي أَنْ يَضُمَّ إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ضَبْطَ مَعْنَاهُ فِقْهًا وَشَرِيعَةً مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ وُجُوبُ الْمُسَاوَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ مَثَلًا وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْقَضَاءِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» مُتَعَلِّقَةٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ وَهَذَا أَيْ ضَبْطُ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ أَكْمَلُ النَّوْعَيْنِ أَيْ الْكَامِلِ مِنْهُمَا وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِك الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الضَّبْطِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ أَيْ الضَّبْطَ الَّذِي هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الرَّاوِي الضَّبْطُ الْكَامِلُ لَا النَّاقِصُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْعَقْلِ أَنَّ الشَّرْطَ مِنْهُ هُوَ الْكَامِلُ وَذَلِكَ لِمَا مَرَّ أَنَّ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ فَإِذَا لَمْ يَضْبِطْ الرَّاوِي فِقْهَ الْحَدِيثِ رُبَّمَا يَقَعُ خَلَلٌ فِي النَّقْلِ بِأَنْ يُقَصِّرَ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى بِلَفْظِهِ بِنَاءً عَلَى فَهْمِهِ وَيُؤْمَنُ عَنْ مِثْلِهِ إذَا كَانَ فَقِيهًا؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ أَصْلِ الضَّبْطِ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ مَنْ اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ خِلْقَةً بِأَنْ كَانَ سَهْوُهُ وَنِسْيَانُهُ أَغْلَبَ مِنْ ضَبْطِهِ وَحِفْظِهِ أَوْ مُسَامَحَةً أَيْ مُسَاهَلَةً لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِ بِشَأْنِ الْحَدِيثِ حُجَّةً، وَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي وَالْمُجَازَفَةُ التَّكَلُّمُ مِنْ غَيْرِ خِبْرَةٍ وَتَيَقُّظٍ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ.
؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ كَمَالِ الضَّبْطِ قَصُرَتْ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ أَيْ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةُ غَيْرِ الْفَقِيهِ رِوَايَةَ الْفَقِيهِ بَلْ يَتَرَجَّحُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِفَوَاتِ كَمَالِ الضَّبْطِ فِي الْأَوَّلِ وَوُجُودِهِ فِي الثَّانِي وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ رَوَى لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» قَالَ عَمْرُو فَقُلْتُ لِجَابِرٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» فَقَالَ: إنَّهَا كَانَتْ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهَا فَقُلْت وَقَدْ كَانَتْ خَالَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَيْضًا فَقَالَ أَنَّى يُجْعَلُ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ الْبَوَّالُ عَلَى عَقِبَيْهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَدَلَّ أَنَّ رِوَايَةَ غَيْرِ الْفَقِيهِ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةَ الْفَقِيهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الضَّبْطِ مِنْ الْفَقِيهِ وَمَا ذَكَرْنَا مَذْهَبُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ رِوَايَةَ الْفَقِيهِ رَاجِحَةٌ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْفَقِيهِ وَقَالَ قَوْمٌ هَذَا التَّرْجِيحُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي خَبَرَيْنِ مَرْوِيَّيْنِ بِالْمَعْنَى أَمَّا الْمَرْوِيُّ بِاللَّفْظِ فَلَا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ، وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ فَإِذَا حَضَرَ الْمَجْلِسَ وَسَمِعَ كَلَامًا لَا يَجُوزُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بَحَثَ عَنْهُ وَسَأَلَ عَنْ مُقَدِّمَتِهِ وَسَبَبِ وُرُودِهِ فَيَطَّلِعُ عَلَى مَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَإِنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ فَيَنْقُلُ الْقَدْرَ الَّذِي سَمِعَهُ فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَحْدَهُ سَبَبًا لِلضَّلَالِ.
وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْقَهَ مِنْ الْآخَرِ كَانَتْ رِوَايَتُهُ رَاجِحَةً؛ لِأَنَّ الْوُثُوقَ بِاحْتِرَازِ الْأَفْقَهِ عَنْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ أَتَمُّ مِنْ الْوُثُوقِ بِاحْتِرَازِ الْأَضْعَفِ وَكَذَا ذُكِرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَيْضًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute