للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِهَذَا قَبِلْتُ مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لِأَنِّي وَجَدْتهَا مَسَانِيدَ وَحَكَى أَصْحَابُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ الْمَرَاسِيلَ وَيَعْمَلُ بِهَا مِثْلَ قَوْلِنَا احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِأَنَّ الْجَهْلَ بِالرَّاوِي جَهْلٌ بِصِفَاتِهِ الَّتِي بِهَا يَصِحُّ رِوَايَتُهُ لَكِنَّا نَقُولُ لَا بَأْسَ بِالْإِرْسَالِ اسْتِدْلَالًا بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالْمَعْنَى الْمَعْقُولِ أَمَّا عَمَلُ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» فَرَدَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ سَمِعْته مِنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَمَّا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» فَعُورِضَ فِي ذَلِكَ بِرِبَا النَّقْدِ قَالَ سَمِعْته مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنَّمَا حُدِّثْنَا عَنْهُ لَكِنَّا لَا نَكْذِبُ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ كَلَامَنَا فِي إرْسَالِ مَنْ لَوْ أَسْنَدَ عَنْ غَيْرِهِ قُبِلَ إسْنَادُهُ وَلَا يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ عَلَيْهِ فَلَأَنْ لَا يُظَنَّ بِهِ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْلَى

ــ

[كشف الأسرار]

أَوْ غَيْرِهَا أَوْ اشْتَرَكَ فِي إرْسَالِهِ عَدْلَانِ ثِقَتَانِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ شُيُوخُهُمَا مُخْتَلِفَةً أَوْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ بِأَنْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ أَوْ أَسْنَدَهُ مُرْسِلُهُ مَرَّةً أُخْرَى.

قَالَ: وَلِهَذَا أَيْ وَلِثُبُوتِ الِاتِّصَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ قُبِلَتْ مَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لِأَنِّي اتَّبَعْتهَا فَوَجَدْتهَا مَسَانِيدَ وَأَكْثَرُ مَا رَوَاهُ مُرْسَلًا إنَّمَا سَمِعَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِهِمْ قَالَ: وَأَقْبَلُ مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لِأَنِّي اعْتَبَرْتهَا فَوَجَدْتهَا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ قَالَ وَمَنْ هَذَا حَالُهُ أُحِبُّ قَبُولَ مَرَاسِيلِهِ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ: إنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ بِهِ كَثُبُوتِهَا بِالْمُتَّصِلِ.

وَفِي الْمُغْرِبِ الْمَرَاسِيلُ اسْمُ جَمْعٍ لِلْمُرْسَلِ كَالْمَنَاكِيرِ لِلْمُنْكَرِ، وَفِي غَيْرِهِ الْمَرَاسِيلُ جَمْعُ الْمُرْسَلِ وَالْيَاءُ فِيهَا لِلْإِشْبَاعِ كَمَا فِي الدَّرَاهِيمِ وَالصَّيَارِيفِ تَمَسَّكَ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْمُرْسَلِ بِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً بِاعْتِبَارِ أَوْصَافٍ فِي الرَّاوِي وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فِي الرَّاوِي إذَا كَانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَالْعِلْمُ بِهِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ عِنْدَ حَضْرَتِهِ وَبِذِكْرِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْلًا لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِهِ وَلَا بِأَوْصَافِهِ فَتَحَقَّقَ انْقِطَاعُ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ وَلَمْ يُعَدِّلْهُ وَبَقِيَ مَجْهُولًا لَمْ يَقْبَلْهُ فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فَالْجَهْلُ أَتَمُّ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ عَيْنُهُ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْجُرْحِ وَالْعَدَالَةِ الِاجْتِهَادُ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَاحِدُ عَدْلًا عِنْدَ إنْسَانٍ مَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ بِأَنْ يَقِفَ مِنْهُ عَلَى مَا كَانَ الْآخَرُ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ وَالْمُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الْمَرْوِيِّ لَهُ فَلَوْ قَبِلْنَا الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ لَكُنَّا قَبِلْنَاهَا تَقْلِيدًا لَا عِلْمًا. وَكَيْفَ يَجْعَلُ رِوَايَةَ الْعَدْلِ تَعْدِيلًا لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَقَدْ رَوَوْا حَدِيثًا وَقَدِيمًا عَمَّنْ لَمْ يَحْمَدُوا فِي الرِّوَايَةِ أَمْرَهُ؟ ، قَالَ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ وَكَانَ وَاَللَّهِ كَذَّابًا، وَرَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ مَعَ ظُهُورِ أَمْرِهِ فِي الْكَذِبِ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْأَسْلَمِيِّ وَكَانَ قَدَرِيًّا رَافِضِيًّا وَرَضِيَ بِالْكَذِبِ أَيْضًا وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ مِمَّنْ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَجْرُوحِينَ وَأَرْسَلَ الزُّهْرِيُّ فَقِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَك؟ فَقَالَ: رَجُلٌ عَلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ إرْسَالَهُ تَعْدِيلًا لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ، وَهُوَ عَدْلٌ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ لِلْمَرْوِيِّ لَهُ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهِ فَإِنْ سَكَنَتْ نَفْسُهُ إلَى قَوْلِهِ قَبِلَهُ، وَإِلَّا يَتَفَحَّصْ عَنْهُ وَبِأَنَّ النَّاسَ تَكَلَّفُوا لِحِفْظِ أَسَانِيدَ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ فَلَوْ كَانَتْ الْحُجَّةُ تَقُومُ بِالْمُرْسَلِ لَكَانَ تَكَلُّفُهُمْ اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى مَا لَا يُفِيدُ، وَتَمَسَّكَ مَنْ قَبْلَهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ.

أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ؛ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ رِوَايَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لِصِغَرِ سِنِّهِ كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ حَيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَرُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ»

<<  <  ج: ص:  >  >>