للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَكْثُرُ لَكُمْ الْأَحَادِيثُ مِنْ بَعْدِي فَإِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَرَدُّوهُ» فَلِذَلِكَ نَقُولُ: إنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ وَيُقْبَلُ فِيمَا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْسَخُهُ وَمَنْ رَدَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ فَقَدْ أَبْطَلَ الْحُجَّةَ فَوَقَعَ فِي الْعَمَلِ بِالشُّبْهَةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ أَوْ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ الَّذِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا وَمَنْ عَمِلَ بِالْآحَادِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَنَسْخِهِ فَقَدْ أَبْطَلَ الْيَقِينَ وَالْأَوَّلُ فَتْحُ بَابِ الْجَهْلِ وَالْإِلْحَادِ. وَالثَّانِي فَتْحُ بَابِ الْبِدْعَةِ وَإِنَّمَا سَوَاءُ السَّبِيلِ فِيمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا فِي تَنْزِيلِ كُلٍّ مَنْزِلَتَهُ

ــ

[كشف الأسرار]

الْكِتَابِ وَلَا كَلَامَ فِيهَا إنَّمَا الْكَلَامُ فِي خَبَرٍ شَاذٍّ خَالَفَ عُمُومَ الْكِتَابِ هَلْ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَوَوْا خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَلَمْ يَخُصُّوا بِهِ قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: ٦] حَتَّى قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ.

قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَكْثُرُ لَكُمْ الْأَحَادِيثُ) الْحَدِيثُ أَهْلُ الْحَدِيثِ طَعَنُوا فِيهِ وَقَالُوا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ ثَوْبَانَ وَيَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ مَجْهُولٌ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ فَكَانَ مُنْقَطِعًا أَيْضًا فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَحُكِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ، وَهُوَ عِلْمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَتَزْكِيَةُ الرُّوَاةِ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧] فَيَكُونُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ سَاقِطًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ الطَّوْدُ الْمُتَّبَعُ فِي هَذَا الْفَنِّ وَإِمَامُ أَهْلِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ فَكَفَى بِإِيرَادِهِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى طَعْنِ غَيْرِهِ بَعْدُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَبُولِ بِالْكِتَابِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالسَّمَاعِ مِنْهُ أَوْ بِالتَّوَاتُرِ وَوُجُوبِ الْعَرْضِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا تَرَدَّدَ ثُبُوتُهُ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذْ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَلَا يَكُونُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْكِتَابِ بِوَجْهٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا أَعْطَاكُمْ الرَّسُولُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَاقْبَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ أَيْ عَنْ أَخْذِهِ فَانْتَهُوا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ هُوَ الْغُلُولُ، وَقَدْ تَأَيَّدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «مَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي مِمَّا تَعْرِفُونَ فَصَدِّقُوا بِهِ وَمَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي مِمَّا تُنْكِرُونَ فَلَا تُصَدِّقُوا فَإِنِّي لَا أَقُولُ الْمُنْكَرَ» وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَرْضِ عَلَى الْكِتَابِ.

وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَقُولُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ فِي النَّسْخِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ لِاشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ فِي النَّسْخِ، وَأَمَّا النَّسْخُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ يَجُوزُ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لَا عَلَى أَنَّهُ نَسْخٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

وَيُقْبَلُ فِيمَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْسَخُهُ أَيْ يُعْمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى النَّسْخِ فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِ يُتْرَكُ مِثَالُ الْأَوَّلِ حَدِيثُ حِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا يَقْتَضِي نَسْخَ ظَاهِرِ الْكِتَابِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا يُقْبَلُ أَصْلًا. وَمِثَالُ الثَّانِي خَبَرُ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ وَتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَوُجُوبِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا لَا يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ فَيُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ وَالتَّعْدِيلُ وَالطَّهَارَةُ عَلَى وَجْهٍ يَتَحَقَّقُ النُّقْصَانُ بِفَوَاتِهَا فِي الْعِبَادَةِ وَلَمْ يَفُتْ أَصْلُ الْجَوَازِ إذْ لَوْ فَاتَ لَأَدَّى إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ وَمَنْ أَرَادَ أَخْبَارَ الْآحَادِ فَقَدْ أَبْطَلَ الْحُجَّةَ لِمَا مَرَّ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مِنْ حِجَجِ الشَّرْعِ فَوَقَعَ فِي الْعَمَلِ بِالشُّبْهَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْقِيَاسِ فِي أَصْلِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو عَنْهَا وَفِي الْخَبَرِ عَارِضٌ أَوْ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ الَّذِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا ثُمَّ بَعْضُ مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>