للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُ الْعُقُوبَاتِ بِالْآحَادِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجَصَّاصِ وَاخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَصْلُحُ الْعَمَلُ بِهِ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ كَمَا فِي الْبَيِّنَاتِ فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ وَكَمَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ إثْبَاتَ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ لَا تَجُوزُ فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي الدَّلِيلِ شُبْهَةٌ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَمْ يَجُزْ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ؛ فَإِنَّمَا صَارَتْ حُجَّةً بِالنَّصِّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: ١٥] ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ فِي اللِّوَاطَةِ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِالْخَبَرِ الْغَرِيبِ مِنْ الْآحَادِ

ــ

[كشف الأسرار]

فِيهَا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ يَجِبُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَيَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا قُلْنَا أَيْ بِشَرْطِ رِعَايَةِ مَا قُلْنَا مِنْ شَرَائِطِهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ آخَرَ.

وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ الْعَدَدَ أَيْضًا فَقَالُوا: لَا تُقْبَلُ فِيهَا إلَّا رِوَايَةُ الْعَدْلَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ ذِي الْيَدَيْنِ حَتَّى شَهِدَ لَهُ غَيْرُهُ» وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي الْجَدَّةِ حَتَّى شَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَمْ يَعْمَلْ عُمَرُ بِخَبَرِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ عَلَى صَاحِبِهِ ثَلَاثَةً فَلَمْ يُؤَذِّنْ لَهُ فَلْيَنْصَرِفْ» حَتَّى رَوَى مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاعْتِبَارٌ بِالشَّهَادَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ تَقْتَضِي شَرْعًا عَامًّا وَالشَّهَادَةُ شَرْعًا خَاصًّا فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ فَلَأَنْ لَا يُقْبَلَ فِي حَقِّ كُلِّ الْأُمَّةِ كَانَ أَوْلَى. وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُمْ قَدْ عَمِلُوا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَدَدٍ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ عَمِلَ بِخَبَرٍ رَوَاهُ بِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَمِلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِخَبَرٍ رَوَاهُ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْجَنِينِ وَبِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَجُوسِ وَعَمِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِخَبَرِ الْمِقْدَادِ فِي الْمَذْيِ وَعَمِلُوا جَمِيعًا بِخَبَرِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ لَا انْتِفَاءُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ عِنْدَ انْعِدَامِ الْعَدَدِ وَوُجُودِ الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ وَلَيْسَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ تَأْثِيرٌ فِي انْتِفَاءِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَاشْتِرَاطُهُ فِي الشَّهَادَةِ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي الرِّوَايَةِ سَائِرُ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْبَصَرِ وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ أَيْضًا.

وَأَمَّا عَدَمُ اعْتِبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَبَرَ ذِي الْيَدَيْنِ فَلِقِيَامِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ كَانَتْ فِي مَحْفِلٍ عَظِيمٍ وَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِهَا الِاشْتِهَارُ.

وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلِقِيَامِ تُهْمَةٍ فِيهَا أَيْضًا مُخْتَصَّةٍ بِهَا فَطَلَبُوا الْعَدَدَ لِلِاحْتِيَاطِ لَا لِلِاشْتِرَاطِ كَمَا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُحَلِّفُ الرَّاوِيَ لِلتُّهْمَةِ ثُمَّ عَمِلَ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِدُونِ التَّحْلِيفِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ وَلَوْ كَانَ شَرْطٌ لَرُوعِيَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ كَمَا فِي بَابِ الشَّهَادَةِ.

قَوْلُهُ (فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) إلَى آخِرِهِ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ إثْبَاتَ الْحُدُودِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ جَائِزٌ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِلَيْهِ مَالَ الْمُصَنِّفُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْحُدُودَ شَرْعٌ عَمَلِيٌّ مِنْ الشَّرَائِعِ فَجَازَ إثْبَاتُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ الشَّرَائِعِ وَتَحَقُّقُ الشُّبْهَةِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ قَبُولِهِ فِي هَذَا الْبَابِ كَتَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ فِي الْبَيِّنَاتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُفِيدُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ فَإِنَّ الرَّجْمَ فِي حَقِّ غَيْرِ مَاعِزٍ ثَابِتٌ بِالدَّلَالَةِ مَعَ أَنَّ الدَّلَالَةَ دُونَ الصَّرِيحِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ بِالنَّظْمِ وَلِبَقَاءِ الِاحْتِمَالِ فِيهَا حَتَّى تَرَجَّحَ الصَّرِيحُ عَلَيْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى الْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ بِالنَّصِّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>