وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَالْعَدَدِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ بِالْوِلَايَةِ مَعَ سَائِرِ شَرَائِطِ الْأَخْبَارِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَحْضِ الْإِلْزَامِ وَتَوْكِيدًا لَهَا
ــ
[كشف الأسرار]
شُبْهَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا إثْبَاتُهَا بِالْبَيِّنَاتِ فَجُوِّزَ بِالنَّصِّ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: ١٥] ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَكَانَ ثُبُوتُهَا مُضَافًا إلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ وَمَنْ رَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَالَ خَبَرُ الْوَاحِدِ صَارَ حُجَّةً بِدَلَائِلَ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ أَيْضًا مِنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَائِرِ الدَّلَائِلِ الَّتِي مَرَّ تَقْرِيرُهَا فَكَانَ مِثْلُ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ فَيَثْبُتُ بِهِ الْحُدُودُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَإِنَّ عُلَمَاءَنَا تَمَسَّكُوا فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِخَبَرٍ مُرْسَلٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقَادَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِمَنْ وَفَّى ذِمَّتَهُ» .
وَثَبَتَ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ بِأَثَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَمَّا ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِهِ يَثْبُتُ الْحُدُودُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ ثَابِتٌ بِدَلَائِلَ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ أَيْضًا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِهِ قُلْنَا: عَدَمُ الثُّبُوتِ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تَجِبُ مُقَدَّرَةً مُكَيَّفَةً بِحَسَبِ كُلِّ جِنَايَةٍ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَامْتَنَعَ إثْبَاتُهَا بِهِ بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَإِنَّهُ كَلَامُ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَإِلَيْهِ إثْبَاتُ كُلِّ حُكْمٍ فَيَجِبُ قَبُولُهُ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ فِي اللِّوَاطَةِ بِالْقِيَاسِ يَعْنِي عَلَى الزِّنَا بِجَامِعِ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِسَفْحِ الْمَاءِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى مُحَرَّمٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا بِالْخَبَرِ الْغَرِيبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُرْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُعْمَلْ بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَرَكُوا الِاحْتِجَاجَ بِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي حُكْمِ اللِّوَاطَةِ فَدَلَّ عَلَى زِيَافَتِهِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ إلْزَامٌ مَحْضٌ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَالْعَدَدُ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِثْلُ الْبَكَارَةِ وَالْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي بِالنِّسَاءِ فِي مَوَاضِعَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ؛ فَإِنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَدَدٍ وَإِنْ اُشْتُرِطَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَقِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ بِالْوِلَايَةِ يَعْنِي يَكُونُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ لِيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ مَعَ سَائِرِ شَرَائِطِ الْأَخْبَارِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ، لِمَا فِيهَا أَيْ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ مِنْ مَحْضِ الْإِلْزَامِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَقِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ بِالْوِلَايَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ وَتَوْكِيدًا لَهَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْ وَلِتَوْكِيدِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: ٨] ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَالْعَدَدِ وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْزَامَاتِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْمُثْبِتُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ مُلْزِمًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِلْزَامَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ إذْ الْوِلَايَةُ تَنْفُذُ الْقَوْلَ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ أَبَى وَالْإِلْزَامُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِيَصْلُحَ خَبَرُهُ لِلْإِلْزَامِ وَذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ فَلِهَذَا شَرَطْنَا الْأَهْلِيَّةَ بِالْوِلَايَةِ وَلَمَّا حَصَلَ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فِي الْخَبَرِ بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْعَدَدُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ فِيهِ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَقَالَ إنَّمَا شُرِعَ اللَّفْظُ وَالْعَدَدُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute