للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِمَا يَخَافُ فِيهَا مِنْ وُجُوهِ التَّزْوِيرِ وَالتَّلْبِيسِ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَالشَّهَادَةُ بِهِلَالِ الْفِطْرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَيَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ بِشَرْطِ التَّمْيِيزِ دُونَ الْعَدَالَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالرِّسَالَاتِ فِي الْهَدَايَا وَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَقُبِلَ فِيهَا خَبَرُ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْفَاسِقِ إذَا أَخْبَرَ رَجُلًا أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَك بِكَذَا

ــ

[كشف الأسرار]

فَإِنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّزْوِيرِ وَالِاشْتِغَالَ بِالْحِيَلِ مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ ظَاهِرٌ فَشَرَطَ الشَّرْعُ الْعَدَدَ وَلَفْظَ الشَّهَادَةِ تَوْكِيدًا لِلْخَبَرِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ وَتَقْلِيلًا لِلْحِيَلِ وَهُمَا قَدْ يَصْلُحَانِ لِلتَّوْكِيدِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ. وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّاهِدَةِ الَّتِي هِيَ الْمُعَايَنَةُ وَهِيَ أَبْلَغُ أَسْبَابِ الْعِلْمِ فَلِذَلِكَ اخْتَصَّ هَذَا الْخَبَرُ بِهِ تَوْكِيدًا، وَكَذَا فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ أَيْضًا مَعْنَى التَّوْكِيدِ؛ لِأَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْمُثَنَّى أَظْهَرُ وَإِنْ لَمْ يَنْتِفْ احْتِمَالُ الْكَذِبِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَمِيلُ إلَى الْوَاحِدِ عَادَةً وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ الِاثْنَانِ عَلَى الْمَيْلِ إلَى الْوَاحِدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ وَاللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّهَادَةَ شُرِعَتْ حُجَّةً لِفَصْلِ مُنَازَعَةٍ ثَابِتَةٍ كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِخَبَرَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ مِنْ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فَلَمْ يَقَعْ الْفَصْلُ لِجِنْسِهِ خَبَرًا بَلْ بِنَوْعِ خَبَرٍ ظَهَرَتْ مَزِيَّتُهُ فِي التَّوْكِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ يَمِينٍ أَوْ شَهَادَةٍ ثُمَّ ضَرْبُ احْتِيَاطٍ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي زِيَادَةِ الصِّدْقِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا احْتَاجَ إلَى إثْبَاتِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ وَإِبْطَالِ الْآخَرِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ احْتَاجَ إلَى زِيَادَةِ تَأْكِيدٍ فِيهِ فَشَرَطَ الشَّرْعُ الْعَدَدَ تَأْكِيدًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، أَوْ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ وَهُوَ أَنَّ خَبَرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَخَاصِمَيْنِ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ فَإِذَا أَتَى الْمُدَّعِي بِشَاهِدٍ فَقَدْ تَقَوَّى صِدْقُهُ وَلَكِنَّ صِدْقَ الْمُنْكِرِ قَدْ تَقَوَّى أَيْضًا بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ لَهُ، وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَاسْتَوَيَا فِي الصِّدْقِ فَاحْتِيجَ إلَى التَّرْجِيحِ بِشَاهِدٍ آخَرَ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا ظُهُورُ الصِّدْقِ فَإِذَا ظَهَرَ الصِّدْقُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ يَلْزَمُ السَّامِعَ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ يَصِيرُ مُوجِبًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إيجَابٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَوَى قَوْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» لَيْسَ فِي صِيغَةِ لَفْظِ الرَّاوِي إيجَابٌ بَلْ إخْبَارٌ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا ثَبَتَ صِدْقُهُ لَزِمَ كُلَّ سَامِعِ مُوجَبُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْخَبَرَ يَلْزَمُ كُلَّ سَامِعٍ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَالْحُقُوقُ لَا تَلْزَمُ بِقَوْلِ الشَّاهِدِ مَا لَمْ يُقْضَ بِهَا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ مَحْضِ الْإِلْزَامِ احْتِرَازٌ عَنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ الْقِسْمِ الْخَامِسِ أَوْ عَنْهُمَا جَمِيعًا.

وَقَوْلُهُ لِمَا يَخَافُ مُتَعَلِّقٌ بِتَوْكِيدًا لَهَا، وَقَوْلُهُ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ تَوْكِيدًا لَهَا لِمَا يَخَافُ فِيهَا مِنْ كَذَا يَعْنِي الْمُجَوِّزَ لِلتَّأْكِيدِ احْتِمَالُ التَّزْوِيرِ وَالتَّلْبِيسِ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ صِيَانَةُ الْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ التَّوْكِيدِ فِي قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لَهُ احْتِمَالُ مَجِيءِ خَبَرِهِ أَوْ كِتَابِهِ وَالْمَعْنَى الْحَامِلُ عَلَيْهِ رَفْعُ الِالْتِبَاسِ عَنْ السَّامِعِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ أَيْ مِثَالُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرٌ وَالشَّهَادَةُ بِهِلَالِ الْفِطْرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِالْفِطْرِ فَكَانَ الْفِطْرُ مِنْ حُقُوقِهِمْ.

وَكَذَا يَلْزَمُهُمْ الِامْتِنَاعُ عَنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتِ الْفِطْرِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَلَا لَا تَصُومُوا الْحَدِيثُ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَسَائِرُ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ؛ فَإِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>