قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عَلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا طَرِيقَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ الْمُطْلَقُ، مِنْ الْحَدِيثِ الْمُشَافَهَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ ذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُونًا عَنْ السَّهْوِ وَمَا كَانَ يَكْتُبُ وَكَلَامُنَا فِيمَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ السَّهْوُ وَيَقْرَأُ مِنْ الْمَكْتُوبِ دُونَ الْمَحْفُوظِ وَهُمَا فِي الْمُشَافَهَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ بَيَانِ الْمُتَكَلِّمِ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ فَيَسْتَفْهِمُ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ نَعَمْ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِلْإِعَادَةِ اخْتِصَارًا عَلَى مَا مَرَّ وَالْمُخْتَصَرُ لُغَةً مِثْلُ الْمُشْبَعِ سَوَاءٌ وَمَا قُلْنَاهُ أَحْوَطُ
ــ
[كشف الأسرار]
لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِإِبَاحَتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ التَّحَدُّثُ عَنْهُ إذَا لَمْ يُحَدِّثْهُمْ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَصِيرُ مُبَاحًا بِإِبَاحَتِهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِإِفَادَةِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ وَهَذَا السُّكُوتُ قَدْ أَفَادَ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْمَسْمُوعَ كَلَامُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ اصْطِلَاحَاتٍ مَخْصُوصَةً يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي مَعَانِي مَخْصُوصَةٍ أَمَّا؛ لِأَنَّهُمْ نَقَلُوهَا بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ إلَى تِلْكَ الْمَعَانِي أَوْ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهَا فِيهَا عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ ثُمَّ صَارَ الْمَجَازُ شَائِعًا وَالْحَقِيقَةُ مَغْلُوبَةٌ وَلَفْظُ أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي هَاهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا السُّكُوتَ يُشَابِهُ الْإِخْبَارَ فِي إفَادَةِ الظَّنِّ وَالْمُشَابَهَةُ إحْدَى أَسْبَابِ الْمَجَازِ.
وَإِذَا جَازَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَجَازًا ثُمَّ اسْتَقَرَّ عُرْفُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَيْهِ صَارَ ذَلِكَ كَالِاسْمِ الْمَنْقُولِ بِعُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ أَوْ كَالْمَجَازِ الْغَالِبِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الِاصْطِلَاحَاتِ فَمَا يَقْرَؤُهُ عَلَيْك أَيْ الْمُحَدِّثُ أَوْ الْمُبَلِّغُ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: ١] أَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ أَيْ أَرْفَعُ وَأَحْوَطُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا أَيْ الْمَنْزِلَةُ الْأُولَى طَرِيقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ وَيَقْرَأُ عَلَى الصَّحَابَةِ لَا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَهَكَذَا الْأَمْرُ فَيَقُولُ نَعَمْ وَلَمَّا كَانَتْ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ تُشْبِهُ فِعْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ كَانَ ذَلِكَ أَحْوَطَ وَأَوْلَى، وَهُوَ الْمُطْلَقُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمُشَافَهَةِ أَيْ مُطْلَقُ قَوْلِك حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا أَوْ شَافَهَنِي بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ صَدَرَ عَنْهُ وَأَنْتَ تَسْمَعُ لَا عَلَى الْعَكْسِ وَدَلَالَةُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْكَامِلِ عَلَى مَا عُرِفَ فَدَلَّ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ السَّامِعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ تَقُولُ حَدَّثَنِي وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَخْبَرَنِي؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ أَعَمُّ.
قَوْلُهُ (كَانَ مَأْمُونًا عَنْ السَّهْوِ) أَيْ عَنْ التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلِذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْلَى فَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَجَازَ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ وَالتَّقْرِيرُ عَلَيْهِ فَكَانَتْ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ وَقِرَاءَةُ غَيْرِهِ سَوَاءً.
وَمَا كَانَ يَكْتُبُ دَلِيلٌ آخَرُ أَيْ وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ كَاتِبًا وَلَا قَارِئًا مِنْ الْمَكْتُوبِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَقْرَأُ مَا يَقْرَأُ عَنْ حِفْظٍ فَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ أَوْلَى فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ كِتَابٍ وَالسَّمَاعُ فِي كِتَابٍ فَهُمَا سَوَاءٌ أَيْ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ وَالْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ فِي مَعْنَى التَّحَدُّثِ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشَافَهَةً حَتَّى لَوْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ حِفْظٍ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ عِنَايَةً فِي الضَّبْطِ وَلِأَنَّهُ يَتَحَدَّثُ بِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا يَفْصِلُ أَيْ لَا فَصْلَ فِي اللُّغَةِ بَيْنَ كَذَا.
وَكَذَا؛ فَإِنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَوْ قَرَأَ ذُكِرَ إقْرَارُهُ عَلَيْك أَوْ تَقْرَأُ عَلَيْهِ ثُمَّ تَسْتَفْهِمُهُ هَلْ تُقِرُّ لِجَمِيعِ مَا قَرَأْته عَلَيْك فَيَقُولُ: نَعَمْ كَأَنَّا سَوَاءٌ.
، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا أَيْ الْوَجْهَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْقَاضِي لِلشَّاهِدِ أَتَشْهَدُ بِكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ كَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ بِكَذَا فِي إثْبَاتِ الْحَقِّ وَإِيجَابِ حُكْمٍ عَلَى الْقَاضِي مَعَ أَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ أَضْيَقُ لِاخْتِصَاصِهَا بِشَرَائِطَ لَمْ تُوجَدْ فِي الرِّوَايَةِ.
وَقَوْلُهُ وَمَا قُلْنَاهُ أَحْوَطُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَحْوَطُ مِنْ تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ إلَّا ذِكْرُ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ بَلْ الْغَرَضُ أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَحْوَطُ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ هَذَا