لِأَنَّ رِعَايَةَ الطَّالِبِ أَشَدُّ عَادَةً وَطَبِيعَةً فَلَا يُؤْمَنُ عَلَى الَّذِي يَقْرَأُ الْغَلَطَ وَيُؤْمَنُ الطَّالِبُ فِي مِثْلِهِ فَأَنْتَ عَلَى قِرَاءَتِك أَشَدُّ اعْتِمَادًا مِنْك عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى احْتِمَالُ الْغَفْلَةِ مِنْهُ عَنْ مَا قَرَأْته عَلَيْهِ وَهَذَا أَهْوَنُ مِنْ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَتْنِ أَوْ السَّنَدِ حَتَّى إنَّ الرِّوَايَةَ إذَا كَانَتْ عَنْ حِفْظٍ كَانَ ذَلِكَ الْوَجْهُ أَحَقَّ كَمَا قُلْتُمْ.
وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ فَأَحَدُهُمَا الْكِتَابُ وَالثَّانِي الرِّسَالَةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَعَلَى رَسْمِ الْكُتُبِ وَيَقُولُ فِيهِ حَدَّثَنَا فُلَانٌ إلَى أَنْ يَذْكُرَ مَتْنَ الْحَدِيثِ ثُمَّ يَقُولُ فَإِذَا بَلَغَك كِتَابِي هَذَا وَفَهِمْته فَحَدِّثْ بِهِ عَنِّي لِهَذَا الْإِسْنَادِ وَهَذَا مِنْ الْغَائِبِ مِثْلُ الْخِطَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى الْكِتَابَ تَبْلِيغًا يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى أَصْلُ الدِّينِ وَكَذَلِكَ الرِّسَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَبْلِيغَ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ الْإِرْسَالَ أَيْضًا وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَنَا بِالْحُجَّةِ
ــ
[كشف الأسرار]
اللَّفْظُ لَا يَنْقَادُ لَهُ بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَأَظُنُّهُ تَصْنِيفَهُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَجْهَانِ سَوَاءٌ بَلْ الثَّانِي أَحْوَطُ وَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّامِعَ إذَا قَرَأَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ هُوَ أَشَدَّ عِنَايَةً فِي ضَبْطِ الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ مِنْ الْمُبَلِّغِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ هَذَا الْجَانِبُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ أَشَدُّ عَادَةً وَطَبِيعَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ أَحْوَطُ مِنْهُ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ ثُمَّ الطَّالِبُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَالْمُحَدِّثُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْهُوَ عَنْ الْبَعْضِ وَيَشِذَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مَا يَشِذُّ مِنْ الطَّالِبِ فَلَا يُؤْمَنُ عَلَى الَّذِي يَقْرَأُ.
وَهُوَ الْمُحَدِّثُ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ مَا يَقْرَأُهُ لِقِلَّةِ رِعَايَتِهِ إذْ هُوَ لَا يَحْتَاطُ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ كَمَا يَحْتَاطُ الْغَيْرُ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا بَقِيَ احْتِمَالُ الْغَفْلَةِ إلَى آخِرِهِ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ قَدْ يُتَوَهَّمُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الطَّالِبِ أَنْ يَسْهُوَ الْمُحَدِّثُ عَنْ بَعْضِ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِي هَذَا التَّوَهُّمُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْمُحَدِّثِ لِشِدَّةِ رِعَايَةِ الطَّالِبِ فِي ضَبْطِ مَا يَسْمَعُ مِنْهُ فَأَجَابَ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَوْهُومٌ إلَّا أَنَّ سَهْوَ الْمُحَدِّثِ عَنْ سَمَاعِ الْبَعْضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ عَادَةً أَهْوَنُ مِنْ تَرْكِ شَيْءٍ فِي الْمَتْنِ أَوْ السَّنَدِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَيْسَرُهُمَا، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ وَيُسَمَّى عَرْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَارِئَ يَعْرِضُ عَلَى الشَّيْخِ مَا يَقْرَأُهُ كَمَا يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُقْرِئِ مِثْلُ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ فِي الْمَرْتَبَةِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ فَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرِهِمَا تَرْجِيحُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِهِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا مَذْهَبُ مُعْظَمِ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَشْيَاخِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَمَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْكِتَابُ فَعَلَى رَسْمِ الْكُتُبِ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا بِخَتْمٍ مَعْرُوفٍ مُعَنْوَنًا، وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ثُمَّ يَبْدَأُ بِالتَّسْمِيَةِ ثُمَّ بِالثَّنَاءِ ثُمَّ بِالْمَقْصُودِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ عَلَى جِهَةِ الْكُتُبِ مَرْسُومًا بِرَسْمِ الْكُتُبِ مُصَدَّرًا تَصْدِيرَ الْكُتُبِ وَثَبَتَ الْكِتَابُ لِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ وَكَانَ فِيهِ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ حَتَّى اتَّصَلَ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا جَاءَك هَذَا الْحَدِيثُ فَحَدِّثْهُ عَنِّي بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَلَّتْ لَهُ الرِّوَايَةُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ إلَى آخِرِهِ، ثُمَّ الْكِتَابُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْإِجَازَةُ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ مِثْلُ السَّمَاعِ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالثَّانِي: مَا يَتَجَرَّدُ عَنْ الْإِجَازَةِ وَأَجَازَ الرِّوَايَةَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَمَنْصُورٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّافِعِيِّينَ وَأَتَى ذَلِكَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَمِلْ مِنْهُ شَيْئًا لَا بِالسَّمَاعِ وَلَا بِالْإِجَازَةِ فَكَيْفَ يُسْنِدُ إلَيْهِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ إشْعَارًا بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْإِجَازَةِ لَفْظًا فَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْإِجَازَةَ مَعْنًى كَذَا ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالْكِتَابِ الرِّسَالَةُ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُحَدِّثُ لِلرَّسُولِ بَلِّغْ عَنِّي فُلَانًا أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute