وَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إذَا أَمِنَ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ
ــ
[كشف الأسرار]
نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُنَاوَلَةُ الْمَقْرُونَةُ لِإِجَازَةٍ وَهِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَهَا صُوَرٌ مِنْهَا أَنْ يَدْفَعَ الشَّيْخُ إلَى الطَّالِبِ أَصْلَ سَمَاعِهِ أَوْ فَرْعًا مُقَابِلًا بِهِ وَيَقُولُ هَذَا سَمَاعِي أَوْ رِوَايَتِي عَنْ فُلَانٍ فَارْوِهِ عَنِّي أَوْ أَجَزْت لَك رِوَايَتَهُ عَنِّي ثُمَّ تَمَلَّكَهُ إيَّاهُ أَوْ يَقُولُ خُذْهُ وَانْسَخْهُ وَقَابِلْ بِهِ ثُمَّ رُدَّهُ إلَيَّ أَوْ نَحْوُ هَذَا. وَمِنْهَا أَنْ يَجِيءَ الطَّالِبُ إلَى الشَّيْخِ بِكِتَابٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ فَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِ فَيَتَأَمَّلُهُ الشَّيْخُ، وَهُوَ عَارِفٌ مُتَيَقِّظٌ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ وَقَفْت عَلَى مَا فِيهِ، وَهُوَ حَدِيثِي عَنْ فُلَانٍ أَوْ رِوَايَتِي عَنْ شُيُوخِي فِيهِ فَارْوِهِ عَنِّي أَوْ أَجَزْت لَك رِوَايَتَهُ عَنِّي، وَقَدْ سَمَّى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَرْضًا، وَقَدْ قُلْنَا إنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ تُسَمَّى عَرْضًا أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ يُسَمَّى عَرْضُ الْقِرَاءَةِ وَهَذَا عَرْضُ الْمُنَاوَلَةِ، وَهَذِهِ الْمُنَاوَلَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْإِجَازَةِ حَالَّةٌ مَحَلَّ السَّمَاعِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ جَمَّةٍ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ مِثْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي الزُّبَيْرِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَعَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَالٍّ مَحَلَّ السَّمَاعِ وَأَنَّهُ مُنْحَطٌّ عَنْ دَرَجَةِ التَّحْدِيثِ لَفْظًا وَالْإِخْبَارِ قِرَاءَةً.
قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَمَّا فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ أَفْتَوْا فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَلَمْ يَرُدَّهُ سَمَاعًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ: وَعَلَيْهِ عَهِدْنَا أَئِمَّتَنَا وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ وَمِنْهَا أَنْ يُنَاوِلَ الشَّيْخُ الطَّالِبَ كِتَابَهُ وَيُجِيزَ لَهُ رِوَايَتَهُ عَنْهُ ثُمَّ تَمَسَّكَهُ الشَّيْخُ عِنْدَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ مِنْهُ فَهَذَا يَتَقَاعَدُ عَمَّا سَبَقَ لِعَدَمِ احْتِوَاءِ الطَّالِبِ عَلَى مَا تَحَمَّلَهُ وَغَيْبَتِهِ عَنْهُ وَجَازَ لَهُ رِوَايَةً ذَلِكَ عَنْهُ إذَا ظَفِرَ بِالْكِتَابِ أَوْ بِمَا هُوَ مُقَابِلٌ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَثِقُ مَعَهُ بِمُوَافَقَتِهِ لِمَا تَنَاوَلَتْهُ الْإِجَازَةُ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجَازَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْمُنَاوَلَةِ، ثُمَّ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُنَاوَلَةِ لَا يَكَادُ يَظْهَرُ لَهَا حُصُولُ مَزِيَّةٍ عَلَى الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ مُنَاوَلَةٍ، وَقَدْ صَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا وَلَا فَائِدَةَ غَيْرَ أَنَّ شُيُوخَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ يَرَوْنَ لِذَلِكَ مَزِيَّةً مُعْتَبَرَةً، وَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ الطَّالِبُ الشَّيْخَ بِكِتَابٍ أَوْ جُزْءٍ فَيَقُولَ هَذَا رِوَايَتُك فَنَاوِلْنِيهِ وَأَجِزْ لِي رِوَايَتَهُ فَيُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَيَتَحَقَّقَ رِوَايَتَهُ لِجَمِيعِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كَانَ الطَّالِبُ مَوْثُوقًا بِخَبَرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَحِينَئِذٍ جَازَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ ذَلِكَ إجَازَةً جَائِزَةً؛ فَإِنَّ الْخَطِيبَ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ قَالَ حَدِّثْ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عَنِّي إنْ كَانَ مِنْ حَدِيثِي مَعَ بَرَاءَتِي مِنْ الْغَلَطِ وَالْوَهْمِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا حَسَنًا وَالثَّانِي الْمُنَاوَلَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْإِجَازَةِ بِأَنْ يُنَاوِلَهُ الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا مِنْ حَدِيثِي أَوْ مِنْ سَمَاعَاتِي وَلَا يَقُولُ ارْوِهِ عَنِّي أَوْ أَجَزْت لَك رِوَايَتَهُ عَنِّي وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُنَاوَلَةٌ مُخْتَلَّةٌ لَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا وَعَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ أَجَازُوهَا وَسَوَّغُوا الرِّوَايَةَ بِهَا، وَحُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ صَحَّحُوهَا مِثْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَبِي نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ وَغَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ) أَيْ إنَّمَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ مَا فِي الْكِتَابِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْجَوَازِ إذَا كَانَ الْكِتَابُ مَأْمُونًا عَنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ فَإِنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute