وَالْأَحْوَطُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِثْلَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ وَأَمْرُهَا عَظِيمٌ وَخَطْبُهَا جَسِيمٌ وَفِي تَصْحِيحِ الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ رَفْعُ الِابْتِلَاءِ وَحَسْمٌ لِبَابِ الْمُجَاهَدَةِ وَفَتْحٌ لِبَاب التَّقْصِيرِ وَالْبِدْعَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَامَّةَ الْأُصُولِيِّينَ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَالُوا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا سَمِعَ عَلَى شَيْخٍ نُسْخَتَهُ فِي كِتَابٍ مَشْهُورٍ مِثْلَ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَثَلًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِ تِلْكَ النُّسْخَةِ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَيَقُولُ: قَدْ سَمِعْته؛ لِأَنَّ النُّسَخَ مِنْ الْكِتَابِ الْوَاحِدِ قَدْ تَخْتَلِفُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النُّسْخَتَيْنِ تَتَّفِقَانِ، فَكَذَا هُنَا وَالْأَحْوَطُ كَذَا أَيْ الْأَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَصِحُّ الْإِجَازَةُ بِدُونِ عِلْمِ مَا فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَصْلُ الدِّينِ لِبِنَاءِ أَكْثَرِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهَا وَخَطْبُهَا جَسِيمٌ فَلَا وَجْهَ لِلْحُكْمِ بِصِحَّةٍ تُحْتَمَلُ الْإِمَامَةُ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ مَفْهُومَةً مَعْلُومَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُ فَلَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَفْهَمْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ فَفِي الْإِجَازَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ، وَفِي تَصْحِيحِ الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ رَفْعٌ لِلِابْتِلَاءِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُبْتَلَوْنَ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ فِي ذَلِكَ مِنْ هَجْرِ الْإِخْوَانِ وَالْخِلَافِ وَقَطْعِ الْأَسْفَارِ الْبَعِيدَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَكَارِهِ الْغُرْبَةِ كَمَا وَقَعَتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ» فَلَوْ جُوِّزَتْ الْإِجَازَةُ بِدُونِ عِلْمٍ لَرَغِبَ النَّاسُ عَنْ التَّعْلِيمِ اعْتِمَادًا عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِدُونِهِ.
وَحَسْمٌ لِبَابِ الْمُجَاهَدَةِ أَيْ قَطْعٌ لِلْجِهَادِ؛ فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ جِهَادٌ فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِدُونِ الْعِلْمِ تَكَاسَلَ فِي طَلَبِهِ وَانْقَطَعَ عَنْهُ وَفَتْحٌ لَبَابِ التَّقْصِيرِ وَالْبِدْعَةِ إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ مِثْلُ هَذِهِ الْإِجَازَةِ فَتَكُونُ بِدْعَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجَازَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ بِدُونِ عِلْمٍ نَظِيرُ سَمَاعِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ بِأَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ فِي الْحَالِ وَالرِّوَايَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: قَدْ أَقْدَمَ الْمَشَايِخُ عَلَى إجَازَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ بِالرِّوَايَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ وَشَاعَ ذَلِكَ فِيهِمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ فَقَالَ ذَلِكَ نَظِيرُ سَمَاعِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّحَمُّلِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَحْضَرُوا الصِّبْيَانَ مَجَالِسَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ؛ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ لَا عَلَى أَنَّهُ طَرِيقٌ يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَنُبَيِّنُ الْآنَ أَنْوَاعَ الْإِجَازَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهَا الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ فَقَالَ الْإِجَازَةُ أَنْوَاعٌ: أَوَّلُهَا: أَنْ يُجِيزَ لِمُعَيَّنٍ فِي مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ أَجَزْت لَك الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَهْرَسَتِي هَذِهِ فَهِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْمُنَاوَلَةِ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا إنَّمَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ هَذَا النَّوْعِ.
وَالثَّانِي أَنْ يُجِيزَ لِمُعَيِّنٍ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَجَزْت لَك أَوْ لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي أَوْ جَمِيعُ مَرْوِيَّاتِي وَالْخِلَافُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَقْوَى وَأَكْثَرُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى تَجْوِيزِ الرِّوَايَةِ بِهَا أَيْضًا وَإِيجَابُ الْعَمَلِ بِمَا رُوِيَ بِهَا.
وَالثَّالِثُ أَنْ يُجِيزَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِوَصْفِ الْعُمُومِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَجَزْت لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ أَوْ لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانِي وَمَا أَشْبَهَهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِمَّنْ جَوَّزَ أَصْلَ الْإِجَازَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ حَاضِرٍ أَوْ نَحْوِهِ فَهُوَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ الْحَافِظُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَلَمْ نَرَ وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْإِجَازَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute