وَإِنَّمَا كَانَ دَوَامُ الْحِفْظِ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ قَوْله تَعَالَى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: ٦] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: ٧] ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَطُّ أَمَامًا لَا يَذْكُرُهُ شَيْئًا؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ الرِّوَايَةُ بِمِثْلِهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ لِلْعَيْنِ وَالْمِرْآةُ إذَا لَمْ تُفِدْ لِلْعَيْنِ دَرْكًا كَانَ عَدَمًا فَالْخَطُّ إذَا لَمْ يُفِدْ لِلْقَلْبِ ذِكْرًا كَانَ هَدَرًا، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْخَطُّ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ فِيمَا يَجِدُ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ مِمَّا لَا يَذْكُرُهُ وَمَا يَكُونُ فِي السُّنَنِ وَالْأَحَادِيثِ وَمَا يَكُونُ فِي الصُّكُوكِ وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِالْخَطِّ فِي الْكُلِّ وَالْعَزِيمَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
ــ
[كشف الأسرار]
وَإِنَّمَا كَانَ دَوَامُ الْحِفْظِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْحِفْظِ الدَّائِمِ لِقُوَّةِ نُورِ قَلْبِهِ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ النِّسْيَانُ مُتَصَوَّرًا فِي حَقِّهِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: ٦] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: ٧] ، وَقَدْ «وَقَعَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَرَدُّدٌ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى قَالَ لِأُبَيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلَّا ذَكَّرْتنِي» ، وَإِذَا تُصُوِّرَ فِي حَقِّهِ فَكَيْفَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ قَوْله تَعَالَى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: ٦] أَيْ نُعَلِّمُك الْقُرْآنَ وَنَجْعَلُك قَارِئًا لَهُ فَلَا تَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَهُ فَيُزِيلَ حِفْظَهُ عَنْ الْقُلُوبِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَلَا تَنْسَى إلَّا أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ إنْسَاءَك؛ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا شَاءَ ثُمَّ هُوَ لَا يُنْسِيك وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: ٨٦] ، وَهُوَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِك لَأُعْطِيَنَّكَ كُلَّ مَا سَأَلْت إلَّا أَنْ أَشَاءَ أَنْ أَمْنَعَك وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ أَنْ تَمْنَعَهُ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَطُّ إمَامًا لَا يَذْكُرُهُ شَيْئًا) بِأَنْ وَجَدَ سَمَاعًا مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ أَبِيهِ أَوْ بِخَطِّ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ السَّمَاعَ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَوِّزُ الرِّوَايَةَ بِمِثْلِهِ بِحَالٍ أَيْ بِمِثْلِ هَذَا الْخَطِّ الَّذِي لَا يَذْكُرُ شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ خَطَّهُ أَوْ خَطَّ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابِ أَنْ يَتَذَكَّرَ إذَا نَظَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلْقَلْبِ كَالْمِرْآةِ لِلْعَيْنِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمِرْآةُ لِيَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ بِالْعَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ كَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، فَكَذَا الْخَطُّ لِلتَّذَكُّرِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْخَطِّ إمَامًا أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا لَمْ يَسْتَفِدْ التَّذَكُّرَ بِهِ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى الْخَطِّ لَا غَيْرُ كَاعْتِمَادِ الْمُقْتَدِي عَلَى الْإِمَامِ فَكَانَ الْخَطُّ إمَامَهُ دُونَ الْحِفْظِ وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ إذَا رَوَى الرَّاوِي الْحَدِيثَ مِنْ كِتَابِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَرَأَهُ عَلَى نَهْجِهِ أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ وَتَذَكَّرَ أَلْفَاظَ قِرَاءَتِهِ وَوَقْتَهَا أَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ جَازَتْ الرِّوَايَةُ وَالْأَخْذُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ فِي الْحَالِ بِأَنَّهُ قَرَأَ جَمِيعَ مَا فِي الْكِتَابِ أَوْ سَمِعَهُ مِنْهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ الْكِتَابَ أَوْ يَظُنَّ ذَلِكَ أَوْ يُجَوِّزْ الْأَمْرَيْنِ تَجْوِيزًا عَلَى السَّوِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ أَوْ ظَانٌّ أَوْ شَاكٌّ وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ لِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَا قِرَاءَتَهُ وَلَكِنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ لِمَا يَرَى مِنْ خَطِّهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى كُتُبِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَحْوَ كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مِنْ غَيْرِ أَنَّ رَاوِيًا رَوَى ذَلِكَ الْكِتَابَ لَهُمْ بَلْ عَمِلُوا لِأَجْلِ الْخَطِّ وَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَازَ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْخَطُّ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ) أَيْ يَتَحَقَّقُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْخَطِّ وَعَدَمِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِيمَا يَجِدُ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ مِنْ صَحِيفَةٍ فِيهَا شَهَادَةُ شُهُودٍ لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِذَلِكَ أَوْ سُجِّلَ بِخَطِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَذَكَّرَ الْحَادِثَةَ وَمَا يَكُونُ فِي الْأَحَادِيثِ كَمَا بَيَّنَّا وَمَا يَكُونُ فِي الصُّكُوكِ بِأَنْ يَرَى الشَّاهِدُ خَطَّهُ فِي صَكٍّ وَلَا يَتَذَكَّرُ الْحَادِثَةَ.
وَالْعَزِيمَةُ أَيْ الْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْخَطِّ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ وَتَنْفِيذَ الْقَضَاءِ لَا يَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute