للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَاتُهُ وَالرُّخْصَةُ فِيمَا قَالَا فَصَارَتْ الْكِتَابَةُ لِلْحِفْظِ عَزِيمَةً وَبِلَا حِفْظٍ رُخْصَةً وَالْعَزِيمَةُ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَالرُّخْصَةُ أَنْوَاعٌ مَا يَكُونُ بِخَطٍّ مُوَثَّقًا بِيَدِهِ لَا يَحْتَمِلُ تَبْدِيلًا وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ بِخَطٍّ مَعْرُوفٍ لِرَجُلٍ ثِقَةٍ مُوَثَّقٍ بِيَدِهِ وَمَا يَكُونُ بِخَطِّ مَجْهُولٍ وَذَلِكَ كُلُّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ فِي الْحَدِيثِ وَالصُّكُوكِ وَدِيوَانِ الْقَاضِي، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ عَمِلَ بِهِ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي إذَا كَانَ تَحْتَ يَدِهِ لِلْأَمْنِ عَنْ التَّزْوِيرِ وَعَمِلَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ إنْ كَانَ لِهَذَا الشَّرْطِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ لَمْ يَحِلَّ الْعَمَلُ بِهِ فِي الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيرَ فِي بَابِهِ غَالِبٌ لِمَا يَتَّصِلُ بِالْمَظَالِمِ وَحُقُوقِ النَّاسِ، وَأَمَّا فِي بَابِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ جَائِزٌ إذَا كَانَ خَطًّا مَعْرُوفًا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ التَّبْدِيلَ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ وَيُؤْمَنُ فِيهِ الْغَلَطُ؛ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِيهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَالْمَحْفُوظُ بِيَدِ الْأَمِينِ مِثْلُ الْمَحْفُوظِ بِيَدِهِ، وَأَمَّا فِي الصُّكُوكِ فَلَا يَحِلُّ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِ الْخَصْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا فِي الصُّكُوكِ؛ فَإِنَّهُ جَوَّزَ الْعَمَلَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ اسْتِحْسَانًا تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ إذَا أَحَاطَ عِلْمًا بِأَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَلْحَقْهُ شَكٌّ وَشُبْهَةٌ وَالْغَلَطُ فِي الْخَطِّ نَادِرٌ

ــ

[كشف الأسرار]

إلَّا بِعِلْمٍ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ شَبَهًا لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزَ بَيْنَهُمَا فَبِصُورَةِ الْخَطِّ لَا يَسْتَفِيدُ عِلْمًا مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ بَلْ يَقَعُ بِالْبِنَاءِ عَلَيْهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا بِالْجَدِّ فِي الْحِفْظِ فَلَا يَلْغُو اعْتِبَارُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بِنِسْيَانٍ يَكُونُ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْحِفْظِ، وَمَا فَسَدَ دِينٌ مِنْ الْأَدْيَانِ إلَّا بِالْبِنَاءِ عَلَى الصُّوَرِ دُونَ الْمَعَانِي، أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَقْبَلُ رِوَايَةَ الْأَخْرَسِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ إشَارَةٌ مَعْقُولَةٌ لِضَرْبِ شُبْهَةٍ فِيهَا يَقَعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا فَاعْتَبَرْنَاهَا وَلَمْ نَعْتَبِرْ فِيمَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ وَعَلَيْهَا فَيَثْبُتُ بِهَا النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا فِي حَقِّهِ.

وَالرُّخْصَةُ فِيمَا قَالَاهُ يَعْنِي مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَزِيمَةَ إلَّا أَنَّ مَا قَالَاهُ لَيْسَ بِفَاسِدٍ أَيْضًا بَلْ هُوَ رُخْصَةٌ وَلِلرُّخْصَةِ مَجَالٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ اشْتِرَاطَ دَوَامِ الْحِفْظِ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إلَى وَقْتِ التَّبْلِيغِ قَدْ سَقَطَ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ.

وَكَذَا الرِّوَايَةُ بِنَاءً عَلَى الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ فَلَمَّا كَانَ لِلرُّخْصَةِ مَدْخَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا فَصَارَتْ الْكِتَابَةُ لِلْحِفْظِ أَيْ مَعَ الْحِفْظِ أَوْ لِأَجْلِ الْحِفْظِ عَزِيمَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ أَيْ صَارَتْ الْكِتَابَةُ الَّتِي عَاقِبَتُهَا الْحِفْظُ وَالتَّذَكُّرُ عَزِيمَةً الضَّمِيرُ فِي بِيَدِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ رَاجِعٌ إلَى مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي بِخَطِّهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْسَامِ يُوجَدُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ عَمِلَ بِهِ أَيْ بِالْخَطِّ الَّذِي لَا يُفِيدُ تَذَكُّرًا فِي دِيوَانِ الْقَاضِي الدِّيوَانُ الْجَرِيدَةُ، مِنْ دَوَّنَ الْكُتُبَ إذَا جَمَعَهَا؛ لِأَنَّهَا قِطَعٌ مِنْ الْقَرَاطِيسِ مَجْمُوعَةٌ وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ أَيْ رَتَّبَ الْجَرَائِدَ لِلْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ إذَا كَانَ تَحْتَ يَدِهِ أَيْ مَحْفُوظًا بِيَدِهِ مَخْتُومًا بِخَاتَمِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطٍّ مَعْرُوفٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ يَعْجِزُ عَنْ أَنْ يَحْفَظَ كُلَّ حَادِثَةٍ، وَلِهَذَا يَكْتُبُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ النِّسْيَانِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْكِتَابِ عِنْدَ النِّسْيَانِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ فِي قَمْطَرَةٍ مَخْتُومًا بِخَاتَمِهِ مَحْفُوظًا بِيَدِهِ أَوْ بِيَدٍ أَمِينَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ يَدٌ مُغَيِّرَةٌ وَلَا زَائِدَةٌ فِيهِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ فَجَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ التَّذَكُّرُ وَعَمِلَ بِهِ أَيْ بِالْخَطِّ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ فِي الْأَحَادِيثِ أَيْضًا إنْ كَانَ الْخَطُّ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ يَدِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي التَّذَكُّرِ وَالْحِفْظِ فَلَوْ شَرَطْنَا التَّذَكُّرَ لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ لَا مَحَالَةَ أَدَّى إلَى تَعْطِيلِ الْأَحَادِيثِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيرَ فِي بَابِهِ أَيْ دِيوَانِ الْقَاضِي غَالِبٌ لِمَا يَتَّصِلُ أَيْ لِاتِّصَالِهِ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ يَعْنِي دِيوَانَ الْقَاضِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَظَالِمِ وَهِيَ جَمْعُ مَظْلِمَةٍ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ مَا تَطْلُبُهُ عِنْدَ الظَّالِمِ.

وَأَمَّا فِي بَابِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ أَيْ بِالْخَطِّ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ إذَا كَانَ خَطًّا مَعْرُوفًا مَأْمُونًا عَنْ التَّبْدِيلِ وَالْغَلَطِ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِيهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَلَا يَعُودُ بِتَغْيِيرِهِ نَفْعٌ إلَى مَنْ يُغَيِّرُهُ فَكَانَ الْمَحْفُوظُ مِنْهُ بِيَدِ أَمِينٍ مِثْلَ الْمَحْفُوظِ بِيَدِهِ فَيَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فَأَمَّا فِي الصُّكُوكِ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْخَطِّ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ؛ لِأَنَّ الصَّكَّ تَحْتَ يَدِ الْخَصْمِ فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهِ فَلَا يَحْصُلُ الشَّهَادَةُ مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ حَتَّى لَوْ كَانَ الصَّكُّ فِي يَدِ الشَّاهِدِ جَازَ لَهُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ لِوُقُوعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>