للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ طَعَنَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ دَسَّ ابْنَهُ لِيَأْخُذَ كُتُبَ أُسْتَاذِهِ حَمَّادٍ وَهَذَا دَلَالَةُ إتْقَانِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَجِيزُ الرِّوَايَةَ إلَّا عَنْ حِفْظٍ وَإِتْقَانٍ وَلَا يَأْمَنُ الْحَافِظُ الزَّلَلَ وَإِنْ جَدَّ حِفْظُهُ وَحَسُنَ ضَبْطُهُ فَالرُّجُوعُ إلَى كُتُبِ الْأُسْتَاذِ آيَةُ إتْقَانِهِ لَا جَرْحَ فِيهِ،

ــ

[كشف الأسرار]

مَا يَسُوءُهُ فَإِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ إمْسَاكِ لِسَانِهِ عَنْهُ فَيَطْعَنُ فِيهِ طَعْنًا مُبْهَمًا إلَّا إنْ عَصَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ إذَا اُسْتُفْسِرَ لَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فَثَبَتَ أَنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ بَيَانِ السَّبَبِ، بِخِلَافِ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهُ لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّكْلِيفِ بِذِكْرِهَا، وَقَوْلُهُمْ الْغَالِبُ أَنَّهُ مَا أَخْبَرَ إلَّا وَهُوَ صَادِقٌ فِي مَقَالِهِ غَيْرَ مُسَلِّمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إخْبَارُهُ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ.

وَكَذَا قَوْلُهُمْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَعْرِفَ ذَلِكَ، قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُعَدِّلِ فَمَنْ حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِبَصِيرَتِهِ وَضَبْطِهِ يُكْتَفَى بِإِطْلَاقِهِ وَمَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ بَصِيرَتُهُ بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اسْتَخْبَرْنَاهُ عَنْ السَّبَبِ، وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ احْتَجَّ بِجَمَاعَةٍ سَبَقَ مِنْ غَيْرِهِ الْجَرْحُ لَهُمْ كَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ وَغَيْرِهِمْ، وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَجَمَاعَةٍ اُشْتُهِرَ الطَّعْنُ فِيهِمْ وَهَكَذَا فَعَلَ أَبُو دَاوُد السِّخْتِيَانِيُّ وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْجَرْحَ لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا فُسِّرَ سَبَبُهُ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ اعْتَمَدَ النَّاسُ فِي جَرْحِ الرُّوَاةِ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي صَنَّفَهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ فِيهِ وَقَلَّمَا يَتَعَرَّضُونَ فِيهَا لِبَيَانِ السَّبَبِ بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ ضَعِيفٌ وَفُلَانٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَوْ هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَهَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَاشْتِرَاطُ بَيَانِ السَّبَبِ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْهُ فِي إثْبَاتِ الْجَرْحِ وَالْحُكْمِ بِهِ فَقَدْ اعْتَمَدْنَاهُ فِي أَنْ يُوقِفَنَا عَنْ قَبُولِ حَدِيثِ مَنْ قَالُوا فِيهِ مِثْلَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعَ عِنْدَنَا فِيهِمْ رِيبَةً قَوِيَّةً يُوجِبُ مِثْلُهَا التَّوَقُّفَ ثُمَّ مَنْ انْزَاحَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ مِنْهُمْ نَبْحَثُ عَنْ حَالِهِ قَبِلْنَا حَدِيثَهُ وَلَمْ نَتَوَقَّفْ كَاَلَّذِينَ احْتَجَّ بِهِمْ صَاحِبَا الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ مِنْهُمْ مِثْلُ هَذَا الْجَرْحِ مِنْ غَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ (وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ طَعَنَ) أَيْ الطَّعْنَ الْمُفَسَّرَ بِمَا لَا يَصْلُحُ جَرْحًا مِثْلُ طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ الْحُسَّادِ الْمُتَعَنِّتِينَ أَنَّهُ دَسَّ ابْنَهُ أَيْ أَخْفَاهُ لِيَأْخُذَ كُتُبَ أُسْتَاذِهِ حَمَّادٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ فَكَانَ يَرْوِي مِنْهَا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ أَعْلَى حَالًا وَأَجَلَّ مَنْصِبًا مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ وَيَأْبَى كُلَّ الْإِبَاءِ دِقَّةُ نَظَرِهِ فِي دَقَائِقِ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى، وَعُلُوُّ دَرَجَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى، وَقَدْ طَعَنَ الْحُسَّادُ فِي حَقِّهِ بِهَذَا الْجِنْسِ كَثِيرًا حَتَّى صَنَّفُوا فِي طَعْنِهِ كُتُبًا وَرَسَائِلَ وَلَكِنْ لَمْ يَزِدْهُ طَعْنُهُمْ إلَّا شَرَفًا وَعُلُوًّا، وَرِفْعَةً بَيْنَ الْأَنَامِ وَسُمُوًّا، فَشَاعَ مَذْهَبُهُ فِي الدُّنْيَا وَاشْتَهَرَ، وَبَلَغَ أَقْطَارَ الْأَرْضِ نُورُ عِلْمِهِ وَاشْتَهَرَ، وَقَدْ عَرَفَ مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ وَإِنْصَافٍ، وَجَانَبَ التَّعَصُّبَ وَالِاعْتِسَافَ أَنَّ كُلَّ مَا قَالُوهُ افْتِرَاءٌ، وَمِثْلُهُ عَنْهُ بَرَاءٌ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ طَعْنًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ أَخَذَهَا تَمَلُّكًا وَغَصْبًا بِغَيْرِ رِضَاءِ مَالِكِهَا أَوْ أَخَذَهَا بِرِضَاهُ، فَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى بَلْ بِحَالِ أَكْثَرِ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحَالِهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ تَمَلُّكًا أَوْ عَارِيَّةً، فَإِمَّا أَنَّهُ رَوَى مِنْهَا شَيْئًا أَوْ لَمْ يَرْوِ فَإِنْ لَمْ يَرْوِ فَلَيْسَ لِلطَّعْنِ فِيهِ مَدْخَلٌ وَإِنْ رَوَى فَإِمَّا إنْ رَوَى مِنْهَا مَا سَمِعَهُ مِنْ أُسْتَاذِهِ أَوْ مَا أَجَازَ لَهُ بِرِوَايَتِهِ أَوْ رَوَى مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ وَلَمْ يُجِزْ لَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>