وَقَدْ انْضَافَ إلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمِنْ ذَلِكَ الطَّعْنُ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَحْتَرِفْ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثُهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِصِحَّةِ الْإِتْقَانِ وَهَذَا مِثْلُ طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمْ يَحْتَرِفْ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ إذَا صَحَّ الْإِتْقَانُ سَقَطَتْ الْعَادَةُ، وَقَدْ قَبِلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَكُنْ اعْتَادَ الرِّوَايَةَ، وَقَدْ يَقَعُ الطَّعْنُ بِسَبَبٍ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ مِثْلُ الطَّعْنِ بِالْإِرْسَالِ وَمِثْلُ الطَّعْنِ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْ فُرُوعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَلَا يُقْبَلُ، فَإِنْ وَقَعَ الطَّعْنُ مُفَسَّرًا بِمَا هُوَ فِسْقٌ وَجَرْحٌ لَكِنَّ الطَّاعِنَ مُتَّهَمٌ بِالْعَصَبِيَّةِ وَالْعَدَاوَةِ لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُ طَعْنِ الْمُلْحِدِينَ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِثْلُ طَعْنِ مَنْ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا وُجُوهُ الطَّعْنِ عَلَى الصِّحَّةِ فَكَثِيرَةٌ قَدْ تَبْلُغُ ثَلَاثِينَ فَصَاعِدًا أَوْ أَرْبَعِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا الْكِتَابُ لَا يَسَعُهَا
ــ
[كشف الأسرار]
أَضَافَهُ إلَى زَمَانِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَجَمَاعَةٍ وَعِنْدَ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَرْفُوعِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا أَيْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ أَثْبَتُ مَتْنًا أَيْ أَدَلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَأَبْعَدُ مِنْ الِاحْتِمَالِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَدِيثَ مَعَ الْقِصَّةِ فَقَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ» الْحَدِيثَ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِتْقَانِ وَفِيهِ ذِكْرُ الْأَمْرِ مِمَّنْ هُوَ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ وَهُوَ أَيْضًا حِكَايَةُ فِعْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَخْرُجُ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا بَيَانُ أَنَّ أَدَاءَ كُلِّ الصَّاعِ كَانَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدَاءً بِصِفَةٍ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَأَدَاءُ الْبَاقِي بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَانْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَيْ إلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «أَخْرِجُوا صَدَقَةَ صَوْمِكُمْ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذِهِ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعِ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ» قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الطَّعْنِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ الطَّعْنُ بِعَدَمِ احْتِرَافِ الرِّوَايَةِ وَاعْتِيَادِهَا مِثْلُ طَعْنِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَقْسِيمِهِ الْأَخْبَارَ بِالْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَالْغَرِيبِ وَالْمُسْتَنْكَرِ فِي التَّقْوِيمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِصَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا فَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْخَوْضَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَيُحِيلَهُ عَلَى أَهْلِهِ فَإِنَّ مَنْ خَاضَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ افْتُضِحَ عِنْدَ أَهْلِهِ.
وَهَذَا طَعْنٌ بَاطِلٌ أَعْنِي بِعَدَمِ الِاعْتِيَادِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْإِتْقَانِ لَا لِلِاحْتِرَافِ وَرُبَّمَا يَكُونُ إتْقَانُ مَنْ لَمْ يَحْتَرِفْ الرِّوَايَةَ أَكْثَرَ مِنْ إتْقَانِ مَنْ اعْتَادَهَا، وَأَمَّا طَعْنُهُمْ عَلَى الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ فَغَيْرُ مُتَوَجِّهٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَمْرٌ كُلِّيٌّ وَبَيَانُ اصْطِلَاحٍ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ أَفْرَادِ الْأَحَادِيثِ وَأَسَانِيدِهَا وَصِحَّتِهَا وَسَقَمِهَا وَإِلَى مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ وَأَحْوَالِهِمْ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ بَلْ يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ مِنْ الْمُخْلِصِينَ فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ مَعَ غَزَارَةِ عِلْمِهِ وَمَهَارَتِهِ فِي كُلِّ فَنٍّ بَلْ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ التَّعَصُّبُ وَالْحَسَدُ وَإِلَّا كَيْفَ لَمْ يَطْعَنُوا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ الَّذِينَ لَا مُمَارَسَةَ لَهُمْ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ ذَكَرُوا فِي كُتُبِهِمْ مَبَاحِثَ تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إذَا صَحَّ الْإِتْقَانُ سَقَطَتْ الْعَادَةُ أَيْ إذَا تَحَقَّقَ الْإِتْقَانُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا بَعْدُ، قَوْلُهُ (وَقَدْ يَقَعُ الطَّعْنُ بِسَبَبٍ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ مِثْلُ الطَّعْنِ بِالِاسْتِكْثَارِ) مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِي حَقِّ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ إمَامًا حَافِظًا مُتْقِنًا إلَّا أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ خَلَلٌ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ وَضَبْطِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الِاجْتِهَادِ وَقُوَّةِ الذِّهْن فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حُسْنِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ طَعْنًا؟ وَجَعَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ قَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالطَّعْنِ بِعَدَمِ الِاحْتِرَافِ وَالطَّعْنِ بِالْإِرْسَالِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ تَأْكِيدِ الْخَبَرِ وَاتَّقَانِ الرَّاوِي فِي السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ أَيْ بَعْضَ مَا يَصِحُّ بِهِ الْجَرْحُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَبْوَابِ مِثْلِ ارْتِكَابِ بَعْضِ الْكَبَائِرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute