وَالْجَرْحُ يَعْتَمِدُ الْحَقِيقَةَ فَصَارَ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ أَمْرًا تَشْتَبِهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَفَ الْمُخْبِرُ بِدَلِيلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهِ ظَاهِرُ الْحَالِ وَجَبَ السُّؤَالُ وَالتَّأَمُّلُ فِي الْمُخْبِرِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ بَنَى عَلَى الْحَالِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَمَا يُشَارِكُهُ فِيهِ السَّامِعُ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ دَلِيلِ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ كَانَ مِثْلَ الْمُثْبِتِ فِي التَّعَارُضِ فَحَدِيثُ نِكَاحِ مَيْمُونَةَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الِاحْتِرَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ الْمُحْرِمِ فَصَارَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ فِي الْمَعْرِفَةِ فَوَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فِي الرُّوَاةِ دُونَ مَا يَسْقُطُ بِهِ التَّعَارُضُ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ رِوَايَةَ مَنْ اخْتَصَّ بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ أَوْلَى وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْقِصَّةَ فَصَارَ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُعْدَ لَهُ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ
ــ
[كشف الأسرار]
مُوجِبٍ بَلْ عَنْ اسْتِصْحَابِ حَالٍ وَخَبَرُ الْمُخْبِرِ صَادِرٌ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ، وَلِأَنَّ السَّامِعَ وَالْمُخْبِرَ فِي هَذَا النَّوْعِ سَوَاءٌ فَإِنَّ السَّامِعَ غَيْرُ عَالِمٍ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ كَالْمُخْبِرِ بِالنَّفْيِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ مُعَارِضًا لِخَبَرِ الْمُثْبِتِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ السَّامِعِ مُعَارِضًا لِخَبَرِ الْمُثْبِتِ الدَّاعِي إلَى التَّزْكِيَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، هُوَ إنْ لَمْ يَقِفْ الْمُزَكَّى مِنْهُ أَيْ مِنْ الشَّاهِدِ عَلَى مَا تُجْرَحُ عَدَالَتُهُ فَكَانَ مَآلُ تَزْكِيَتِهِ الْجَهْلُ بِسَبَبِ الْجَرْحِ إذْ لَا طَرِيقَ لِلْمُزَكِّي إلَى الْوُقُوفِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِ الشَّاهِدِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى يَكُونَ إخْبَارُهُ بِعَدَالَتِهِ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهَا، وَالْجَرْحُ يَعْتَمِدُ الْحَقِيقَةَ أَيْ الْجَارِحُ يُخْبِرُ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهُوَ الْمُعَايَنَةُ فَصَارَ أَوْلَى وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَقَلَّمَا تُوقَفُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدَمِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَيْ لَا تُوقَفُ.
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْجِيحِ الْجَرْحِ عَلَى التَّزْكِيَةِ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ فَصَّلُوا وَقَالُوا الْجَارِحُ إمَّا أَنْ يُعَيِّنَ السَّبَبَ أَوْ لَا فَإِنْ عَيَّنَ فَإِمَّا أَنْ يَنْفِيَهُ الْمُعَدِّلُ أَمْ لَا فَإِنْ نَفَاهُ فَإِمَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِطَرِيقٍ يَقِينِيٍّ أَمْ لَا، فَإِنْ عَيَّنَ السَّبَبَ وَنَفَاهُ الْمُعَدِّلُ بِطَرِيقٍ يَقِينِيٍّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْجَارِحُ رَأَيْتُهُ قَدْ قَتَلَ فُلَانًا الْمُسْلِمَ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي وَقْتِ كَذَا وَيَقُولَ الْمُعَدِّلُ قَدْ رَأَيْتُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ يَقُولَ الْجَارِحُ رَأَيْتُهُ شَرِبَ الْخَمْرَ طَوْعًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقُولَ الْمُعَدِّلُ كُنْت مُصَاحِبًا لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَمْ يُشْرِبْهَا أَصْلًا فَهَهُنَا يَتَعَارَضَانِ وَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِبَعْضِ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ يُقَدَّمُ الْجَرْحُ؛ لِأَنَّهُ اطِّلَاعٌ عَلَى زِيَادَةٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْمُعَدِّلُ وَمَا نَفَاهَا يَقِينًا فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُنَا هَكَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا التَّعْدِيلَ نَفْيٌ عَنْ دَلِيلٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَارِضَ الْإِثْبَاتَ وَهُوَ الْجَرْحُ، قَوْلُهُ (دُونَ مَا يَسْقُطُ بِهِ التَّعَارُضُ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ) وَهُوَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا نَفْيًا وَالْآخَرُ إثْبَاتًا يَعْنِي لَا يُقَالُ أَحَدُهُمَا نَفْيٌ وَالْآخَرُ إثْبَاتٌ وَالنَّفْيُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ فَلَا يُعَارِضُ لِلْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّفْيَ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ فَصَارَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ. وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ أَيْ الرُّجُوعُ إلَى أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ أَيْ يُجْعَلَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِفَقَاهَتِهِ وَضَبْطِهِ وَإِتْقَانِهِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يُعَادِلُهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فَإِنَّ قُوَّةَ الضَّبْطِ تَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى زِيَادَةِ ضَبْطِهِ وَإِتْقَانِهِ أَنَّهُ فَسَّرَ الْقِصَّةَ عَلَى مَا رَوَى عَنْهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ يَعْنِي فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَهُوَ حَرَامٌ. وَكَانَ زَوَّجَهُ أَيَّاهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ ثَلَاثًا فَأَتَاهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ وَكَّلَتْهُ بِإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ فَقَالُوا قَدْ انْقَضَى أَجَلُك فَاخْرُجْ عَنَّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَصَنَعْنَا لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ قَالُوا لَا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِك فَاخْرُجْ عَنَّا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلَفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ عَلَى مَيْمُونَةَ حَتَّى أَتَاهُ بِهَا بِسَرِفٍ فَبَنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ هُنَالِكَ» هَكَذَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِلْمُسْتَغْفِرَيَّ وَشَرْحِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ قَدْ ضَعَّفَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ حَيْثُ قَالَ لِلزُّهْرِيِّ وَمَا يَدْرِي يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ أَعْرَابِيٌّ بَوَّالٌ عَلَى عَقِبِهِ أَتَجْعَلُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute