{فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: ٢٧] أَنَّ الْأَهْلَ عَامٌّ لَحِقَهُ خُصُوصٌ مُتَرَاخٍ بِقَوْلِهِ {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: ٤٦] .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَيَانَ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ بِقَوْلِهِ {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: ٤٠] وَذَلِكَ هُوَ مَا سَبَقَ مِنْ وَعْدِ إهْلَاكِ الْكُفَّارِ وَكَانَ ابْنُهُ مِنْهُمْ وَلِأَنَّ الْأَهْلَ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلِابْنِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الرُّسُلِ مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَآمَنَ بِهِمْ فَيَكُونُ أَهْلَ دِيَانَةٍ لَا أَهْلَ نِسْبَةٍ إلَّا أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: ٤٥] لِأَنَّهُ كَانَ دَعَاهُ إلَى الْإِيمَانِ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ الْكُبْرَى حَسُنَ ظَنُّهُ بِهِ وَامْتَدَّ نَحْوَهُ رَجَاؤُهُ فَبَنَى عَلَيْهِ سُؤَالَهُ فَلَمَّا وَضَحَ لَهُ أَمْرُهُ أَعْرَضَ عَنْهُ وَسَلَّمَهُ لِلْعَذَابِ وَهَذَا سَائِغٌ فِي مُعَامَلَاتِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - بِنَاءً عَلَى الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ إلَى أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: ١١٤]
ــ
[كشف الأسرار]
مَعْنًى فَلِذَلِكَ صَحَّ مُتَرَاخِيًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِبَقَرَةٍ مُطْلَقَةٍ.
ثُمَّ نُسِخَ الْإِطْلَاقُ بِالتَّقْيِيدِ مَا رُوِيَ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمْ لَوْ عَمَدُوا إلَى أَدْنَى أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَدَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ الَّذِي فِيهِ تَخْفِيفٌ صَارَ مَنْسُوخًا بِانْتِقَالِ الْحُكْمِ إلَى الْمُقَيَّدَةِ وَأَنَّ اسْتِقْصَاءَهُمْ فِي السُّؤَالِ صَارَ سَبَبًا لِتَغْلِيظِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ وَإِلَيْهِ مَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ نَكِرَةٍ، ثُمَّ أَخَّرَ بَيَانَهَا إلَى حِينِ السُّؤَالِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ مَا لَهُ ظَاهِرٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَقَرَةٌ مُعَيَّنَةٌ أَنَّ الشَّارِعَ عَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: ٦٨] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: ٦٩] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة: ٧١] وَلَوْ كَانَتْ نَكِرَةً لَمَا سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِهَا لِلْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ بِأَيَّةِ بَقَرَةٍ كَانَتْ.
وَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِأُمُورٍ مُتَجَدِّدَةٍ وَلَوْ كَانَ تَكْلِيفُهُمْ بِأُمُورٍ مُتَجَدِّدَةٍ غَيْرِ مَا أُمِرُوا بِهِ أَوَّلًا لَكَانَ الْوَاجِبُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ آخِرًا دُونَ مَا ذُكِرَتْ أَوَّلًا، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَحْصِيلُ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا بِإِجْمَاعٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَيَانُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ بَقَرَةٌ وَأَنَّ الْمَذْبُوحَ الْمُتَّصِفَ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ كَانَ مُطَابِقًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ أَوَّلًا الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَذَبَحُوهَا أَيْ الْبَقَرَةَ الْمَأْمُورُ ذَبْحُهَا الْمَذْكُورُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ ذَبَحُوا هَذِهِ الْبَقَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ عَنْ الْوَاجِبِ قَبْلَ سُؤَالِهِمْ لَخَرَجُوا عَنْ الْعُهْدَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ بَيَانُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَوْ كَانَ مُرَادًا، ثُمَّ صَارَ الْمُقَيَّدُ مُرَادًا يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ جَمِيعًا لِضِيقِ الزَّمَانِ عَنْ الِاعْتِقَادِ إذْ لَا بُدَّ لِلِاعْتِقَادِ مِنْ الْعِلْمِ وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ لَهُمْ الْعِلْمُ بِالْوَاجِبِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَالْبَيَانِ وَلِهَذَا قَالُوا {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: ٧٠] أَيْ إلَى الْبَقَرَةِ الْمُرَادِ ذَبْحُهَا وَالنَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ بَدَاءٌ وَجَهْلٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، بَلْ الْأَمْرُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا فِي بَقَرَةٍ مُقَيَّدَةٍ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْمُطْلَقَةِ لَكِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ لَا أَنَّهُ تَعَالَى أَحْدَثَ حُكْمًا آخَرَ عِنْدَ السُّؤَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا بَيَانَ تِلْكَ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِمْ {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: ٦٨] {يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: ٦٩] وَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَهَا لَهُمْ فَلَوْ حُمِلَ عَلَى النَّسْخِ لَا يَكُونُ بَيَانًا لَهَا بَلْ يَكُونُ رَفْعًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ.
، وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْخَبَرِ فَمِنْ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ إثْبَاتُ الْبَدَاءِ فِي حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَغْيِيرُ إرَادَتِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ لَوْ عَمَدُوا إلَى أَدْنَى أَيِّ بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُطْلَقُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ لَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْمُقَيَّدِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا.
ثُمَّ نَحْنُ إنْ سَلَّمْنَا جَوَازَ تَأْخِيرِ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّقْيِيدَ نَسْخٌ لِلْإِطْلَاقِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَإِنْ لَمْ يُجَوَّزْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّجْهِيلِ وَاعْتِقَادِ غَيْرِ الْحَقِّ أَوْ اعْتِقَادِ مَا لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَدَمَ اقْتِرَانِ بَيَانٍ بِهِ لِجَوَازِ إعْلَامِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُرَادَ ذَبْحُ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا مُطْلَقَةٍ فَكَانَ هَذَا بَيَانًا إجْمَالِيًّا مُقَارِنًا.
ثُمَّ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ إلَى حِينِ سُؤَالِهِمْ وَتَأْخِيرُ مِثْلِ هَذَا الْبَيَانِ عِنْدَنَا جَائِزٌ أَيْضًا وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون: ٢٧] أَيْ أَدْخِلْ فِي السَّفِينَةِ يُقَالُ سَلَكَهُ فِيهِ