هَذَا عِنْدَنَا يُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ وَزِيَادَةً عَلَى النَّصِّ فَكَانَ نَسْخًا فَصَحَّ مُتَرَاخِيًا لِمَا نُبَيِّنُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
ــ
[كشف الأسرار]
الِابْتِدَاءِ لِمَنْ أَبَى جَوَازَ تَأْخِيرِ التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعُمُومَ خِطَابٌ لَنَا فِي الْحَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمُخَاطِبُ بِهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقْصِدَ إفْهَامَنَا فِي الْحَالِ أَوْ لَا يَقْصِدَ ذَلِكَ وَالثَّانِي فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ انْتَقَضَ كَوْنُهُ مُخَاطِبًا إذْ الْمَعْقُولُ مِنْ قَوْلِنَا إنَّهُ مُخَاطِبٌ لَنَا أَنَّهُ قَدْ وَجَّهَ الْخِطَابَ نَحْوَنَا وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ قَصَدَ إفْهَامَنَا وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْإِفْهَامَ فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ خِطَابًا لَنَا فِي الْحَالِ لَكَانَ إغْرَاءً بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ قَصَدَ إفْهَامَنَا فِي الْحَالِ فَيَكُونُ قَدْ قَصَدَ أَنْ نَجْهَلَ؛ لِأَنَّ مَنْ خَاطَبَ قَوْمًا بِلُغَتِهِمْ فَقَدْ أَغْرَاهُمْ بِأَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ عَنَى بِهِ مَا عَنَوْا بِهِ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ عَبَثًا إذْ الْفَائِدَةُ فِي الْخِطَابِ لَيْسَتْ إلَّا إفْهَامَ الْمُخَاطَبِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ إفْهَامَنَا فِي الْحَالِ.
، وَإِذَا أَرَادَ إفْهَامَنَا فِي الْحَالِ فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ مُرَادَهُ ظَاهِرُهُ أَوْ غَيْرُ ظَاهِرِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ وَظَاهِرُهُ لِلْعُمُومِ وَهُوَ مَخْصُوصٌ عِنْدَهُ فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ نَفْهَمَ غَيْرَ ظَاهِرِهِ وَهُوَ لَمْ يَنْصِبْ دَلِيلًا عَلَى تَخْصِيصِهِ فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا مَا لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ فَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِنَا وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِذًا لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ التَّخْصِيصَ مُتَّصِلًا بِالْعُمُومِ أَوْ يُشْعِرَنَا بِالْخُصُوصِ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الْعَامُّ مَخْصُوصٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ الْخَارِجَ عَنْ الْعُمُومِ لِئَلَّا يَكُونَ إغْرَاءً بِاعْتِقَادِ غَيْرِ الْحَقِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ لَا ظَاهِرَ لَهُ لِيُؤَدِّيَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِيهِ إلَى اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيَانَ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ٥] اقْتَضَى بِعُمُومِهِ وُجُوبَ قَتْلِ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَاعْتِقَادِ ذَلِكَ، كَمَا اقْتَضَى وُجُوبَ قَتْلِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: ٤٣] اقْتَضَى وُجُوبَ فِعْلٍ عَلَى نَفْسِهِ وَوُجُوبَ شَيْءٍ فِي مَالِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِخِلَافِ الْحَقِّ فَافْتَرَقَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا وَافَقَنَا الْخَصْمُ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ لُزُومُ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِيهِ وَجَوَازُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ عَامٌّ، وَتَجْوِيزُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ بِدَلِيلِ الْخُصُوصِ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْكَذِبِ فِي الْحِجَجِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
١ -
، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ اعْتِقَادُ الْحَقِّيَّةِ فِي الْحُكْمِ النَّازِلِ فَأَمَّا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَا كَانَ يَجِبُ اعْتِقَادُ التَّأْبِيدِ فِي الْحُكْمِ وَلَا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ؛ لِأَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَيَتَبَدَّلُ الْحُكْمُ كَالصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِنَّمَا وَجَبَ اعْتِقَادُ التَّأْبِيدِ فِيهِ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِهِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ لَا تُنْسَخُ بَعْدَهُ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى وَتَمَسَّكَ مَنْ جَوَّزَ تَأْخِيرَهُ بِنُصُوصٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ بَعْضِهَا فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: ٦٧] تَمَسَّكُوا بِهِ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُطْلَقَةٍ لِيُظْهِرَ أَمْرَ الْقَتِيلِ بَيْنَهُمْ وَالْمُطْلَقُ عَامٌّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ بَيَانِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ.
ثُمَّ بَيَّنَهَا لَهُمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ مُقَيَّدَةً بِأَوْصَافٍ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ وَالتَّقْيِيدُ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ بِالتَّقْيِيدِ يَخْرُجُ غَيْرُ الْمُقَيَّدِ عَنْ عُمُومِهِ فَدَلَّ أَنَّ تَأْخِيرَ التَّخْصِيصِ جَائِزٌ فَأَجَابَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ إذْ الْمُطْلَقُ فِي ذَاتِهِ لَيْسَ بِعَامٍّ لِمَا مَرَّ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute