وَإِنَّمَا سَمَّيْنَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ إشَارَةً إلَى أَثَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنْتَ حُرٌّ لِعَبْدِهِ عِلَّةُ الْعِتْقِ نُزِّلَ بِهِ مَنْزِلَةَ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي مَحَلٍّ يَقِرُّ فِيهِ فَإِذَا حَالَ الشَّرْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ إيقَاعَانِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَكُونُ مُسْتَقِرًّا فِي مَحَلِّهِ وَمُعَلَّقًا مَعَ ذَلِكَ فَصَارَ الشَّرْطُ مُغَيِّرًا لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْبَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ ابْتِدَاءُ وُجُودِهِ فَأَمَّا التَّغْيِيرُ بَعْدَ الْوُجُودِ فَنَسْخٌ وَلَيْسَ بِبَيَانٍ وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ لِابْتِدَاءِ وُقُوعِهِ غَيْرَ مُوجِبٍ وَالْكَلَامُ كَانَ يَحْتَمِلُهُ شَرْعًا؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ لَهَا جَائِزٌ شَرْعًا مِثْلُ الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ وَغَيْرِهِ سُمِّيَ هَذَا بَيَانًا فَاشْتَمَلَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَسُمِّيَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ
ــ
[كشف الأسرار]
اسْتَدَلَّ عَلِيٌّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ لَمَّا حَلَفَ أَيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِضَرْبِ امْرَأَتِهِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِضَرْبِ ضِغْثٍ عَلَيْهَا تَحِلَّةً لِيَمِينِهِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: ٤٤] وَلَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا لَأَمَرَهُ بِهِ لَا بِالضَّرْبِ بِالضِّغْثِ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ وَأَخَفُّ وَبِأَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِثُبُوتِ الْإِقْرَارَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُقُودِ وَلَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْفَصِلًا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى التَّلَاعُبِ وَإِبْطَالِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مُنْفَصِلًا لَمَا عُلِمَ صِدْقُ صَادِقٍ وَلَا كَذِبُ كَاذِبٍ وَلَمْ يَحْصُلْ وُثُوقٌ بِيَمِينٍ وَلَا وَعْدٍ وَلَا وَعِيدٍ وَبُطْلَانُهُ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ وَبِمَسْأَلَةٍ أَفْحَمَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَبَا جَعْفَرٍ الدَّوَانِقِيَّ حِينَ عَاتَبَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ جَدِّهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْفَصِلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَدِّك لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ فِي بَيْعَتِك فَإِنَّ الَّذِينَ بَايَعُوك عَلَى الْخِلَافَةِ لَوْ اسْتَثْنَوْا بَعْدَمَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِك أَوْ حِينَ مَا بَدَا لَهُمْ ذَلِكَ لَمْ تَبْقَ خِلَافَتُك وَوَسِعَهُمْ خِلَافُك فَسَكَتَ وَرَدَّهُ بِجَمِيلٍ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَوَازُ تَأْخِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ النَّقْلُ إذْ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِمَنْصِبِهِ وَإِنْ صَحَّ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ إذَا نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ أَوْ لَا، ثُمَّ أَظْهَرَ نِيَّتَهُ بَعْدَهُ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا نَوَاهُ وَمَذْهَبُهُ أَنَّ مَا يَدِينُ فِيهِ الْعَبْدُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ.
وَأَمَّا تَجْوِيزُ التَّأْخِيرِ لَوْ أَصَرَّ عَلَيْهِ دُونَ هَذَا التَّأْوِيلِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْكَلَامِ يَحْصُلُ بِهِ الْإِتْمَامُ فَإِذَا انْفَصَلَ لَمْ يَكُنْ إتْمَامًا كَالشَّرْطِ وَخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ فَإِنَّهُ إذَا أُخِّرَ الشَّرْطُ أَوْ الْخَبَرُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَصِيرُ كَلَامًا فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا أَوْ خَبَرًا فَكَذَا قَوْلُهُ إلَّا زَيْدًا بَعْدَ شَهْرٍ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومًا فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ إتْمَامًا لِلْكَلَامِ.
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النِّسْيَانِ فَقَدْ كَانَ عَلَى وَجْهِ تَدَارُكِ التَّبَرُّكِ بِالِاسْتِثْنَاءِ لِلتَّخَلُّصِ عَنْ الْإِثْمِ وَالِامْتِثَالِ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: ٢٤] لَا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ.
وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِالْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَوَهْمٌ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ بَلْ فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي بَلَغَتْنَا وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَعْنَى كَلَامِ الْعَرَبِ نَظْمًا وَفَصْلًا وَوَصْلًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ فَصْلُ صِيغَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ الْعِبَارَةِ الَّتِي تُشْعِرُ بِمُسْتَثْنًى مِنْهُ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا سَمَّيْنَاهُ) أَيْ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْبَيَانِ بِبَيَانِ التَّغْيِيرِ وَلَمْ نَقْتَصِرْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالتَّغْيِيرِ وَلَا بِالْبَيَانِ لِلْإِشَارَةِ إلَى وُجُودِ أَثَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَيْ وُجُودُ أَثَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ نُزِّلَ بِهِ أَيْ نُزِّلَ أَنْتَ حُرٌّ بِالْعَبْدِ شَرْعًا مَنْزِلَةَ وَضْعِ شَيْءٍ مَحْسُوسٍ فِي مَحَلٍّ تَقَرُّ فِيهِ فَإِذَا حَالَ الشَّرْطُ بَيْنَهُ أَيْ بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَبَيْنَ مَحَلِّهِ وَهُوَ الْعَبْدُ فَتَعَلَّقَ أَنْتَ حُرٌّ بِالشَّرْطِ بَطَلَ كَوْنُهُ إيقَاعًا - جَوَابُ إذَا - وَلَكِنَّهُ أَيْ الْمُتَعَلِّقَ بَيَانٌ مَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ تَغْيِيرًا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ مَا يَظْهَرُ بِهِ ابْتِدَاءً وُجُودُهُ أَيْ وُجُودُ الشَّيْءِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى مَدْلُولِ الْبَيَانِ وَهُوَ الْمُبَيَّنُ فَأَمَّا التَّغْيِيرُ بَعْدَ الْوُجُودِ فَنَسْخٌ وَلَيْسَ بِبَيَانٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ وَالتَّغْيِيرُ بَعْدَ الْوُجُودِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا يَكُونُ بَيَانًا.
وَهَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى اخْتِيَارِ الْقَاضِي الْإِمَامِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَا النَّسْخَ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ فَأَمَّا عَلَى اخْتِيَارِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute