وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ} [البقرة: ٢٣٧] هَذَا دَلِيلٌ مُعَارِضٌ لِبَعْضِ الصَّدْرِ هُوَ فِي حَقِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْعَفْوُ فَبَقِيَ فِيمَا لَا مُعَارَضَةَ فِيهِ، وَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا إنَّهُ يَسْقُطُ مِنْ الْأَلْفِ قَدْرُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْمُعَارَضَةِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْقِيمَةِ وَاحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَدَلَالَتِهِ وَبِالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ
ــ
[كشف الأسرار]
{إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: ٢٣٧] فَإِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْأَزْوَاجِ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ بِقَوْلِهِ {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: ٢٣٧] فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْعَاقِلَةُ وَالْمَجْنُونَةُ وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى حَالَةَ الْعَفْوِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: ٢٣٧] أَيْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ فَيَسْقُطَ الْكُلُّ فَيَثْبُتَ الْمُعَارَضَةُ بِهِ فِي حَقِّ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي يَصِحُّ مِنْهَا الْعَفْوُ دُونَ الْمَجْنُونَةِ أَوْ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْهُمَا فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُعَارِضًا لِبَعْضِ صَدْرِ الْكَلَامِ لَا لِجَمِيعِهِ فَبَقِيَ الصَّدْرُ فِيمَا لَا يُعَارِضُهُ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ وَيَخْتَصُّ السُّقُوطُ بِالْعَفْوِ بِالْعَاقِلَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْهَا إلَّا أَنْ تَعْفُوَ الْمُطَلَّقَاتُ عَنْ أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يُطَالِبْنَهُمْ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَتَقُولَ الْمَرْأَةُ مَا رَآنِي وَمَا اسْتَمْتَعَ بِي فَكَيْفَ آخُذُ مِنْهُ شَيْئًا.
{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: ٢٣٧] أَيْ الْوَلِيُّ الَّذِي يَلِي عَقْدَ نِكَاحِهِنَّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ الزَّوْجُ فَإِنَّ إمْسَاكَ الْعُقْدَةِ وَحَلُّهَا بِالطَّلَاقِ بِيَدِهِ وَاللَّامُ فِي النِّكَاحِ بَدَلُ الْإِضَافَةِ أَيْ نِكَاحُهُ أَيْ أَوْ أَنْ يَتَفَضَّلَ الزَّوْجُ بِإِعْطَاءِ الْكُلِّ صِلَةً لَهَا وَإِحْسَانًا فَيَقُولُ قَدْ نُسِبَتْ إلَيَّ بِالزَّوْجِيَّةِ فَلَا يَلِيقُ بِالْمُرُوءَةِ اسْتِرْدَادُ شَيْءٍ مِنْ مَهْرِهَا يَعْنِي الْوَاجِبَ شَرْعًا هُوَ النِّصْفُ إلَّا أَنْ تُسْقِطَ هِيَ الْكُلَّ أَوْ يُعْطِيَ هُوَ الْكُلَّ فَإِيجَابُ النِّصْفِ إنْصَافُ الشَّرِيعَةِ وَتَرْكُهَا وَبَذْلُهُ مِنْ أَخْلَاقِ الطَّرِيقَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ عَفْوٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَالِبَ كَانَ فِيهِمْ سَوْقُ الْمَهْرِ إلَيْهَا عِنْدَ التَّزَوُّجِ فَإِذَا كَانَ طَلَّقَهَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُطَالِبَهَا بِنِصْفِ مَا سَاقَ إلَيْهَا فَإِذَا تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ فَقَدْ عَفَا عَنْهَا وَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ وَيَسْقُطُ مِنْ الْأَلْفِ قَدْرُ قِيمَةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا ثَوْبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيَانًا إلَّا هَكَذَا، ثُمَّ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إذْ لَوْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ صَارَ لَغْوًا وَالْأَصْلُ فِي كَلَامِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُعَارَضَةِ فِي عَيْنِ الْمُسْتَثْنَى وَالْإِمْكَانُ هَاهُنَا فِي أَنْ يُجْعَلَ نَفْيًا لِقَدْرِ قِيمَةِ الثَّوْبِ لَا لِعَيْنِهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى قِيمَةِ الْكُرِّ تَصْحِيحًا لِلِاسْتِثْنَاءِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
قَالَ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى كَمَا قُلْتُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ الْأَلْفُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ مَعَ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا كُرَّ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ هَذَا عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَالْكَلَامُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُسْتَثْنَى أَصْلًا فَظَهَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ فِيهِ مَا قُلْنَا هَذَا بَيَانُ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِيهَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا وَلَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ هَذَا الْأَصْلَ وَيُخَرِّجُونَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى أُصُولٍ أُخَرَ فَيَقُولُونَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَعْطُوفَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ عِنْدَنَا إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ كَمَا إذَا تَعَقَّبَهَا أَوْ تَقَدَّمَهَا شَرْطٌ.
أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ الْقَبُولِ أَيْ وَلَا تَقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ وَبِالتَّوْبَةِ يَنْتَفِي الْفِسْقُ فَيَثْبُتُ الْقَبُولُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُعَارَضَةٌ.
وَكَذَا بَقَاءُ صَدْرِ الْكَلَامِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْحَدِيثِ مُتَنَاوِلًا لِحُرْمَةِ بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَةِ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ مُعَارِضًا لَا يُثْبِتُ هَذِهِ الْحُرْمَةَ بَلْ لَوْ جُعِلَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي يُثْبِتُ هَذِهِ الْحُرْمَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute