وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ إنَّ مَعْنَاهُ بِيعُوا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَبَقِيَ صَدْرُ الْكَلَامِ عَامًّا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَارَضَهُ فِي الْمَكِيلِ خَاصَّةً وَخُصُوصُ دَلِيلِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَتَعَدَّى مِثْلَ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ
ــ
[كشف الأسرار]
التَّائِبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَاذِفِينَ فَيَكُونُ هَذَا إثْبَاتَ حُكْمٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَثْبَتَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَصَدْرُ الْكَلَامِ أَمْرٌ بِالْجَلْدِ وَنَهْيٌ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَتَسْمِيَةٌ بِالْفِسْقِ فَيَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا عَلَى خِلَافِهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ إلَّا التَّائِبِينَ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُجْلَدُونَ فَيَبْقَى صِفَةُ الْفِسْقِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ بِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْجَلْدُ بِالتَّوْبَةِ أَيْضًا كَرَدِّ الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُشْتَرَطُ لِلسُّقُوطِ التَّوْبَةُ إلَيْهِ لَا غَيْرُ، فَإِذَا تَابَ سَقَطَ كَمَا إذَا تَابَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَحَدُّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ أَوْ حَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ التَّوَارُثُ وَالْعَفْوُ عِنْدَهُ فَيُشْتَرَطُ فِي سُقُوطِهِ التَّوْبَةُ إلَى الْعَبْدِ بَعْدَ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالْمَظَالِمِ لَا تَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ إرْضَاءِ أَرْبَابِهَا حَتَّى إذَا تَابَ إلَى الْمَقْذُوفِ وَاعْتَذَرَ فَعَفَا عَنْهُ الْمَقْذُوفُ سَقَطَ أَيْضًا كَالْقِصَاصِ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ كَمَا جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُعَارِضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَعَلَهُ مُعَارِضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَإِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا طَعَامًا مُسَاوِيًا بِطَعَامٍ مُسَاوٍ فَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَبِيعُوهُمَا.
أَوْ مَعْنَاهُ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَإِنَّهُمَا إذَا صَارَا مُتَسَاوِيَيْنِ جَازَ لَكُمْ أَنْ تَبِيعُوهُمَا أُثْبِتَتْ حُرْمَةُ الْبَيْعِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ عَامَّةً فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَعْنِي مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ مِثْلُ الْحَفْنَةِ وَالْحَفْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمُ جِنْسٍ، وَقَدْ دَخَلَهُ لَامُ التَّعْرِيفِ فَاسْتَغْرَقَ الْجَمِيعَ فَلَمَّا اسْتَثْنَى الْمُسَاوِيَ امْتَنَعَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْمُعَارَضَةِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ دَاخِلًا تَحْتَ الصَّدْرِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ التَّسَاوِي الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَثْبُتُ الْمُعَارَضَةُ فِي الْمَكِيلِ خَاصَّةً فَبَقِيَ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَةِ وَبِالْحَفْنَتَيْنِ دَاخِلًا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فَيَحْرُمُ، وَقَوْلُهُ وَخُصُوصُ دَلِيلِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَتَعَدَّى جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَإِنْ عَارَضَ الصَّدْرَ فِي الْمَكِيلِ عَلَى الْخُصُوصِ بِصِيغَتِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ عَنْهُ بِالتَّعْلِيلِ فَيُثْبِتُ الْمُعَارَضَةَ حِينَئِذٍ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ فِي بَيْعِ الْحَفْنَةِ عِنْدَ التَّسَاوِي كَمَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ عَنْ الْمَخْصُوصِ إلَى غَيْرِهِ بِتَعْلِيلِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فَقَالَ خُصُوصُ دَلِيلِ الْمُعَارَضَةِ يَعْنِي الدَّلِيلَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْمُعَارَضَةُ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ خَاصًّا لَا يَزُولُ خُصُوصُهُ بِتَعَدِّي حُكْمِهِ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ كَمَا يَقْبَلُهُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فَيَقْبَلُ التَّعْلِيلَ وَمِثْلُ يَقْرَأَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا بِالرَّفْعِ.
وَبَعْضُهُمْ قَرَأَهُ بِالرَّفْعِ وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ دَلِيلَ الْمُعَارَضَةِ خَاصٌّ بِصِيغَتِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ مَا تَنَاوَلَهُ إذْ لَوْ تَعَدَّى لَصَارَ عَامًّا كَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ لَا يَتَعَدَّى عَنْ الْمَخْصُوصِ نَصًّا إلَّا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ دَلِيلَ الْمُعَارَضَةِ لَا يَتَعَدَّى مَا تَنَاوَلَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِالتَّعْلِيلِ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ مُعَارَضَةُ التَّعْلِيلِ النَّصَّ وَهِيَ بَاطِلَةٌ، فَأَمَّا دَلِيلُ الْخُصُوصِ فَمُبَيِّنٌ لِوُجُودِ حَدِّ الْبَيَانِ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ بِهِ ابْتِدَاءً وُجُودُ الشَّيْءِ فَكَانَ قَابِلًا لِلتَّعْلِيلِ، وَهَذَا كُلُّهُ وَهْمٌ وَالْمَعْنَى هُوَ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: ٢٣٧] أَيْ خُصُوصُ الِاسْتِثْنَاءِ وَعُمُومُ الصَّدْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِثْلُ خُصُوصِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعُمُومِ الصَّدْرِ فِي قَوْله تَعَالَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute