للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ وَافَقَ الْكِتَابَ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا فَرُدُّوهُ» وَقَالَ وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ صِيَانَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شُبْهَةِ الطَّعْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُسِخَ الْقُرْآنُ بِهِ أَوْ سُنَنِهِ كَمَا نُسِخَتْ بِالْكِتَابِ لَكَانَ مَدْرَجَةً إلَى الطَّعْنِ فَكَانَ التَّعَاوُنُ بِهِ أَوْلَى

ــ

[كشف الأسرار]

بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَقْلًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَالْقَلَانِسِيُّ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ عَقْلًا وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلَوْ وَرَدَ بِهِ كَانَ جَائِزًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الإِسْفِرايِينِي.

وَالثَّانِيَةُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَعِنْدَ بَعْضِ مَنْ أَنْكَرَ الْجَوَازَ فِيهَا مِنْهُمْ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَأَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ وَذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ وَلَوَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الْأَوْلَى بِالْحَقِّ كَذَا ذَكَرَهُ السَّمْعَانِيُّ فِي الْقَوَاطِعِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَنْكَرَ الْجَوَازَ عَقْلًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِأَنَّ الْمَنْسُوخَ مَا كَانَ مَنْسُوخًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْخَبَرُ يَصِيرُ مُتَوَاتِرًا بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ إذْ لَوْ جَازَ بِهِ النَّسْخُ لَصَارَتْ الْمَعْرِفَةُ بِنَسْخِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى نَسْخِهِ.

وَرُبَّمَا بَنَوْا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالُوا لَمَّا جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ لَمْ نَأْمَنْ فِي تَجْوِيزِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ صَادِرَةً عَنْ الِاجْتِهَادِ فَيَقَعُ حِينَئِذٍ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.

قَالُوا: وَلِهَذَا أَخَّرْنَا التَّخْصِيصَ بِالسُّنَّةِ لِجَوَازِهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَنَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ شَرْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: ١٠٦] ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تُنْسَخُ إلَّا بِآيَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: ١٠٦] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ خَيْرٌ أَوْ مِثْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُبْدَلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَا آخُذُ مِنْك دِرْهَمًا إلَّا آتِيك بِخَيْرٍ مِنْهُ يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِي بِدِرْهَمٍ خَيْرٍ مِنْ الدِّرْهَمِ الْمَأْخُوذِ وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلًا لَهُ وَلَا مِنْ جِنْسِهِ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُعْجِزٌ وَالسُّنَّةُ كَلَامُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهِيَ غَيْرُ مُعْجِزَةٍ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِهَا.

وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ نَأْتِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآتِيَ بِالْخَيْرِ أَوْ الْمِثْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا وَالنَّاسِخُ قُرْآنٌ لَا سُنَّةٌ وَيُؤَكِّدُهُ سِيَاقُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: ١٠٦] لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ الْآتِيَ بِهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِعَدَمِ الْجَوَازِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالُوا: لَمَّا دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُجَانَسَةِ فِي النَّسْخِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لِعَدَمِ الشَّرْطَيْنِ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ لِفَوَاتِ الشَّرْطَيْنِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَيْ الْإِتْيَانُ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْخَيْرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَوْ السُّنَّتَيْنِ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ النَّسْخِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَلَا أَيْ

<<  <  ج: ص:  >  >>