وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: ١٨٠] فِي الْآيَةِ فَرْضُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
ــ
[كشف الأسرار]
فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا التَّمَسُّكَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي الْإِتْيَانَ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْخَيْرِ فِي نَسْخِ الْآيَةِ لَا فِي مُطْلَقِ النَّسْخِ إذْ لَمْ يَقُلْ مَا نَنْسَخْ مِنْ شَيْءٍ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ هَذَا التَّمَسُّكَ فِي كُتُبِهِمْ بَلْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَا غَيْرُ.
١ -
وَاسْتَدَلُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: ١٥] .
أَخْبَرَ أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيْسَ إلَيْهِ وِلَايَةُ التَّبْدِيلِ وَأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِمَا أُوحِيَ إلَيْهِ لَا مُبَدِّلٌ لَهُ وَالتَّبْدِيلُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ وَتَبْدِيلَ الْحُكْمِ فَيَنْتَفِي الْأَمْرَانِ جَمِيعًا وَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ تَبْدِيلِ الْحُكْمِ كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ تَبْدِيلِ اللَّفْظِ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ» أَمَرَ بِالرَّدِّ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ وَلَا بُدَّ لِلنَّسْخِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ النَّسْخُ بِهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤] جَعَلَ قَوْلَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيَانًا لِلْمُنَزَّلِ فَلَوْ نُسِخَتْ السُّنَّةُ بِهِ لَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا بَيَانًا لِانْعِدَامِهَا وَبِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: ٨٩] وَالسُّنَّةُ شَيْءٌ فَيَكُونُ الْكِتَابُ بَيَانًا لِحُكْمِهِ لَا رَافِعًا لَهُ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ مُؤَيِّدًا لَهَا إنْ كَانَ مُوَافِقًا وَمُبَيِّنًا لِلْغَلَطِ فِيهَا إنْ كَانَ مُخَالِفًا ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ لَهُمْ مِنْ الْمَعْقُولِ دَلِيلًا يَشْمَلُ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقَالَ وَلِأَنَّ فِي هَذَا أَيْ فِي عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ صِيَانَةَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ شُبْهَةِ الطَّعْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُسِخَ الْكِتَابُ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ يَقُولُ الطَّاعِنُ هُوَ أَوَّلُ قَائِلٍ وَأَوَّلُ عَامِلٍ بِخِلَافِ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ أُنْزِلَ إلَيْهِ فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ نُسِخَتْ سُنَّةٌ بِالْكِتَابِ يَقُولُ الطَّاعِنُ قَدْ كَذَّبَهُ رَبُّهُ فِيمَا قَالَ فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَكَانَ مَدْرَجَةً إلَى الطَّعْنِ أَيْ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إلَيْهِ فَكَانَ التَّعَاوُنُ بِهِ أَيْ بِكُلِّ وَاحِدٍ أَوْلَى مِنْ الْمُخَالَفَةِ يَعْنِي جَعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِينًا لِلْآخَرِ وَمُؤَيِّدًا لَهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ رَافِعًا وَمُبْطِلًا لِصَاحِبِهِ سَدًّا لِبَابِ الطَّعْنِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مَصُونٌ عَمَّا يُوهِمُ الطَّعْنَ.
وَلَا يُقَالُ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ مِثْلُ هَذِهِ الْمَدْرَجَةِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطَّاعِنَ يَقُولُ كَيْفَ نَعْتَمِدُ قَوْلَهُ فِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الطَّعْنِ بِقَوْلِهِ {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: ١٠٢] فَلَا يَكُونُ فِي تَجْوِيزِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ تَعْرِيضُهُ لِلطَّعْنِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ.
قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: ١٨٠] ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ كَانَتْ فَرْضًا بِمُوجَبِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي قُوَّةِ الْمُتَوَاتِرِ إذْ الْمُتَوَاتِرُ نَوْعَانِ مُتَوَاتِرٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ وَمُتَوَاتِرٌ مِنْ حَيْثُ ظُهُورُ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَإِنَّ ظُهُورَهُ يُغْنِي النَّاسَ عَنْ رِوَايَتِهِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ ظَهَرَ بِهِ مَعَ الْقَوْلِ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى بِلَا تَنَازُعٍ فَيَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِمِثْلِ خَبَرِ الْمَسِيحِ لِشُهْرَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute