للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذَا الِاسْتِدْلَال غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا ثَبَتَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ.

وَبَيَانُهُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ فَرَتَّبَ الْمِيرَاثَ عَلَى وَصِيَّةٍ نَكِرَةٍ وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالسُّنَّةِ لَوَجَبَ تَرْتِيبُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ فَصَارَ الْإِطْلَاقُ نَسْخًا لِلْقَيْدِ كَمَا يَكُونُ الْقَيْدُ نَسْخًا لِلْإِطْلَاقِ وَالثَّانِي أَنَّ النَّسْخَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءٌ بَعْدَ انْتِهَاءٍ مَحْضٍ وَالثَّانِي بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ كَمَا نُسِخَتْ الْقِبْلَةُ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ إلَى الْكَعْبَةِ

ــ

[كشف الأسرار]

يُقَالَ: إنَّمَا ثَبَتَ النَّسْخُ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إيجَابَ حَقٍّ آخَرَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَثُبُوتَ حَقٍّ بِطَرِيقٍ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ حَقٍّ آخَرَ لِطَرِيقٍ آخَرَ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ وَبِدُونِ الْمُنَافَاةِ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَعَلَّ نَاسِخَهُ مِمَّا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَمْ يَبْلُغْنَا لِانْتِسَاخِ تِلَاوَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ إذْ مَا مِنْ حُكْمٍ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ فِيهِ أَنَّ نَاسِخَهُ نَزَلَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا لِانْتِسَاخِ تِلَاوَتِهِ.

وَإِلَى الِامْتِنَاعِ تَعْيِينُ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ أَبَدًا إذْ مَا مِنْ نَاسِخٍ إلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّرَ أَنْ يَكُونُ النَّاسِخُ غَيْرَهُ وَمَا مِنْ مَنْسُوخٍ حُكْمُهُ إلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّرَ إسْنَادُ ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ وَفِيهِ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ لِانْعِقَادِهِ عَلَى أَنَّ مَا وُجِدَ صَالِحًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ هُوَ الْمُثْبَتُ وَمَا وُجِدَ صَالِحًا لِنَسْخِ الْحُكْمِ هُوَ النَّاسِخُ، وَإِنْ احْتَمَلَ إضَافَةَ الْحُكْمِ وَالنَّسْخِ إلَى غَيْرِ مَا ظَهَرَ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ عَنْهُ قَالَ الشَّيْخُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا الِاسْتِدْلَال غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلْ ثَبَتَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ ثُبُوتِ النَّسْخِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ الْإِرْثَ عَلَى وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: ١٢] .

وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً مُعَرَّفَةً بِاللَّامِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: ١٨٠] فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ الْمَفْرُوضَةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْحَدِيثِ كَمَا زَعَمُوا لَوَجَبَ تَرْتِيبُ الْمِيرَاثِ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَفْرُوضَةِ ثُمَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ النَّافِلَةِ بِأَنْ قَالَ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَمِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُمْ بِهَا لِلْأَجَانِبِ فَلَمَّا رَتَّبَ الْإِرْثَ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ النَّافِلَةِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ الْوَصِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ بَعْدَ التَّقْيِيدِ نَسْخٌ كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ نَسْخٌ لِتَغَايُرِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَا يُقَالُ الْمَعْرِفَةُ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فَيَكُونُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ عَيْنَ الْأُولَى فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى نَسْخِهَا فَيَتَحَقَّقُ النَّسْخُ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ الْأَصْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ صَدْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ بَعْدَمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ كَانَتْ النَّكِرَةُ غَيْرَ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ رَأَيْت الرَّجُلُ ثُمَّ قَالَ رَأَيْت رَجُلًا يَكُونُ الْمَذْكُورُ آخِرًا غَيْرَ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَلَئِنْ سُلِّمَ فَذَلِكَ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْمَانِعُ هَاهُنَا، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجَانِبِ وَمُسْتَنِدُ الْإِجْمَاعِ هَذَا النَّصُّ فَلَوْ صُرِفَتْ الْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ إلَى الْمَعْهُودَةِ وَقَدْ نُسِخَتْ الْمَعْهُودَةُ بِلَا خِلَافٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَأَخُّرِ الْمِيرَاثِ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي أَيْ الْوَجْهُ الثَّانِي لِبَيَانِ فَسَادِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّسْخَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءٌ بَعْدَ انْتِهَاءٍ مَحْضٍ أَيْ إثْبَاتُ حُكْمٍ ابْتِدَاءً عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى انْتِهَاءِ حُكْمٍ كَانَ قَبْلَهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَنَسْخِ الْمُسَالَمَةِ بِالْمُقَابَلَةِ وَنَسْخِ إبَاحَةِ الْخَمْرِ بِحُرْمَتِهَا.

وَالثَّانِي نَسْخٌ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ أَنَّ تَحَوُّلَ الْحُكْمِ مِنْ مَحِلٍّ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِيَ بِالْكُلِّيَّةِ كَنَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ فَرْضِ التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ وَلَكِنْ حُوِّلَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>