للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَنَّ النَّسْخَ لِبَيَانِ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَجَائِزٌ لِلرَّسُولِ بَيَانُ حُكْمِ الْكِتَابِ فَقَدْ بُعِثَ مُبَيِّنًا وَجَائِزٌ أَنْ يَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ مَا أَجْرَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْكِتَابَ يَزِيدُ بِنَظْمِهِ عَلَى السُّنَّةِ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ يَصْلُحُ نَاسِخًا وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِهَا حُكْمُ الْكِتَابِ دُونَ نَظْمِهِ وَالسُّنَّةُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَحْيٌ مُطْلَقٌ يُوجِبُ مَا يُوجِبُهُ الْكِتَابُ، فَإِذَا بَقِيَ النَّظْمُ مِنْ الْكِتَابِ وَانْتَسَخَ الْحُكْمُ مِنْهُ بِالسُّنَّةِ كَانَ الْمَنْسُوخُ مِثْلَ النَّاسِخِ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ وَقَعَ الطَّعْنُ بِمِثْلِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ بَلْ فِي ذَلِكَ إعْلَاءُ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْظِيمُ سُنَّتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

ــ

[كشف الأسرار]

فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْبِيدِ إذْ الْبَعْدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ تَتَنَاوَلُ الْأَبَدَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ جَزَاءً لِحُسْنِ عَمَلِهِنَّ وَهُوَ اخْتِيَارُهُنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمُصَابَرَتُهُنَّ عَلَى الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ ذَلِكَ بِالنَّسْخِ مَعَ بَقَائِهِنَّ عَلَى ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا نَسْخَهُ فَذَلِكَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: ٥٠] عَلَى مَا قِيلَ لَا بِالسُّنَّةِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاحْتِجَاجُ «وَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ وَمَنْ لَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ رَدُّوهُ وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمَّا خُتِمَ كِتَابُ الصُّلْحِ جَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا مُسَافِرٌ الْمَخْزُومِيُّ وَقِيلَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اُرْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي كَمَا هُوَ الشَّرْطُ وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: ١٠] إلَى آخِرِ الْآيَةِ» وَنُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَهَذَا السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ.

قَوْلُهُ (وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ) وَهُوَ مُعْتَمَدُ الْجُمْهُورِ أَنَّ نَسْخَ أَحَدِهِمَا أَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِالْآخَرِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَمْ يَرِدْ مِنْهُ مَنْعٌ سَمْعًا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ أَمَّا بَيَانُ عَدَمِ امْتِنَاعِهِ عَقْلًا فَلِأَنَّ النَّسْخَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِالْكِتَابِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُدَّةَ بَقَائِهِ بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُبَيِّنَهَا بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ وَكَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ مُجْمَلَ الْكِتَابِ بِعِبَارَتِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ مُدَّةَ الْحُكْمِ الْمُطْلَقِ بِعِبَارَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّسْخَ إسْقَاطُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ إسْقَاطُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ نَسْخُهُ بِهَا أَيْضًا، وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِالسُّنَّةِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا أَنْ يَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ مُدَّتِهِ لِعِلْمِهِ بِتَبَدُّلِ الْمَصْلَحَةِ كَمَا لَوْ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِنَفْسِهِ وَكَمَا لَوْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مُدَّةَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ الثَّابِتَ بِعِبَارَتِهِ هُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَمْ يَرِدْ السَّمْعُ بِعَدَمِ جَوَازِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا تَلَوْا مِنْ الْآيَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فَثَبَتَ أَنَّهُ جَائِزٌ.

وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَكَانَ لِغَيْرِهِ لَا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: ٣] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤] إلَّا أَنَّ الْكِتَابَ مَتْلُوٌّ وَالسُّنَّةَ غَيْرُ مَتْلُوَّةٍ وَنَسْخُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالْآخَرِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِذَاتِهِ وَلِهَذَا فَرْضُ خِطَابِ الشَّارِعِ بِجَعْلِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ أَوْ بِجَعْلِ السُّنَّةِ نَاسِخَةً لِلْقُرْآنِ لِمَا لَزِمَ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا فَإِذًا لَوْ امْتَنَعَ لَكَانَ لِغَيْرِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ إذَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ نُسِخَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْلُوَ قُرْآنًا أَيُقْبَلُ خَبَرُهُ أَمْ لَا، فَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ لَا يُقْبَلُ فَقَدْ انْسَلَخَ عَنْ الدِّينِ، وَإِنْ قَالَ يُقْبَلُ فَقَدْ تَرَكَ مَذْهَبَهُ إذْ هُوَ تَفْسِيرُ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ.

قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْكِتَابَ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْجَوَازِ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا قَالُوا: إنَّ نَسْخَ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ لَا يَجُوزُ لِفَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ بِالنَّصِّ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَزِيدُ بِنَظْمِهِ لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا عَلَى السُّنَّةِ فَيَصْلُحُ نَاسِخًا لَهَا لِكَوْنِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>