وَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَالَ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: ٣] وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ السُّنَّةَ
ــ
[كشف الأسرار]
خَيْرًا مِنْهَا كَمَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ لِكَوْنِهِ مَثَلًا لَهُ وَالسُّنَّةُ مِثْلُ الْكِتَابِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَإِيجَابِ الْعِلْمِ كَمَا قُرِّرَ فِي الْكِتَابِ فَيَصِحُّ نَسْخُهُ بِهَا أَيْضًا.
(فَإِنْ قِيلَ) قَوْلُهُ: فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِهَا حُكْمُ الْكِتَابِ دُونَ نَظْمِهِ يُنَاقِضُ مَا سَبَقَ أَنَّ أُبَيًّا ظَنَّ نَسْخَ النَّظْمِ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ يُتْلَى، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ قُلْنَا الْمُرَادُ هَاهُنَا بَيَانُ الْوُقُوعِ أَيْ لَمْ يَقَعْ نَسْخُ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ نَسْخُ الْحُكْمِ بِهَا وَفِيمَا سَبَقَ بَيَانُ الْجَوَازِ أَيْ ظَنُّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ النَّظْمِ بِدُونِ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ تَنَاقُضًا أَوْ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ، فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِهَا حُكْمُ الْكِتَابِ دُونَ نَظْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهٍ تَقُومُ السُّنَّةُ مَقَامَهُ فِي جَوَازِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِهَا.
وَالْمُرَادُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ فَقَطْ فَيَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ وَقَوْلُهُ وَلَوْ وَقَعَ الطَّعْنُ جَوَابٌ عَمَّا قَالُوا نَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مَدْرَجَةٌ إلَى الطَّعْنِ فَقَالَ لَوْ وَقَعَ الطَّعْنُ بِمِثْلِهِ أَيْ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَامْتَنَعَ بِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ أَيْ النَّسْخُ فِي الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّاعِنَ يَقُولُ: إنَّهُ يُنَاقِضُ فِي كَلَامِهِ وَيَنْقُلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَلَامًا مُتَنَاقِضًا فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: ١٠١] قَالُوا: إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ثُمَّ لَمْ يَنْدَفِعْ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ بِهَذَا الطَّعْنِ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ وَأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ لِلطَّعْنِ مَجَالٌ بَلْ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَعَكْسِهِ إعْلَاءُ مَنْزِلَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَعْظِيمُ سُنَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ بَيَانَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وَحْيٌ فِي الْأَصْلِ إلَيْهِ لِيُبَيِّنَهُ بِعِبَارَتِهِ وَجَعَلَ لِعِبَارَتِهِ مِنْ الدَّرَجَةِ مَا يُثْبِتُ بِهِ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِهِ انْتِسَاخُهُ.
وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ سُنَّتَهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ مِثْلَ كَلَامِهِ وَتَوَلَّى بَيَانَ مُدَّتِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا تَوَلَّى بَيَانَ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَهُ بِكَلَامِهِ قَوْلُهُ (وَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: ١٥] فَقَالَ ظَهَرَ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ كَمَا زَعَمُوا بَلْ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ وَلَا يُقَالُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ لِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ لَهُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْإِذْنُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا، وَإِنَّهُ فِي اجْتِهَادِهِ لَا يُقِرُّ الْخَطَأَ فَكَانَ اجْتِهَادُهُ مَعَ التَّقَرُّرِ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ أَيْضًا وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النَّاسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَيْسَ الشَّرْطُ أَنْ يُنْسَخَ حُكْمُ الْقُرْآنِ بَلْ بِوَحْيٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ وَهُوَ النَّاسِخُ بِاعْتِبَارٍ وَهُوَ الْمَنْسُوخُ بِاعْتِبَارٍ وَلَيْسَ لَهُ كَلَامَانِ أَحَدُهُمَا قُرْآنٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بِالْعِبَارَاتِ فَرُبَّمَا دَلَّ عَلَى كَلَامِهِ بِلَفْظٍ مَنْظُومٍ يَأْمُرُ بِتِلَاوَتِهِ وَيُسَمَّى قُرْآنًا وَرُبَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ وَيُسَمَّى سُنَّةً وَالْكُلُّ مَسْمُوعٌ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالنَّاسِخُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ حَالٍ قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute