وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى الْكِتَابِ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا أَشْكَلَ تَارِيخُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الصِّحَّةِ بِحَيْثُ يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ فَكَانَ تَقْدِيمُ الْكِتَابِ أَوْلَى فَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: ١٠٦] ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِيَّةِ مَا يَرْجِعُ إلَى الْعِبَادِ دُونَ النَّظْمِ بِمَعْنَاهُ فَكَذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ عَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَسْخَ حُكْمِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ فِي الْكِتَابِ فَرْضِيَّةَ اتِّبَاعِهِ مُطْلَقًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَرْضِيَّةُ اتِّبَاعِهِ مُقَيَّدًا بِأَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا يُتْلَى فِي الْكِتَابِ ظَاهِرًا وَلَئِنْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ اخْتِبَارُ الْآحَادِ لَا الْمَسْمُوعِ عَنْهُ بِعَيْنِهِ أَوْ الثَّابِتِ عَنْهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَفِي اللَّفْظِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ.
قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ وَلَمْ يَقُلْ: إذَا سَمِعْتُمْ مِنِّي وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ مَسْمُوعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعًا وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ عِنْدَ التَّعَارُضِ إذَا جُهِلَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا حَتَّى لَا يُوقَفَ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَصًّا عِنْدَ التَّعَارُضِ وَنَحْنُ هَكَذَا نَقُولُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُرِفَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ: فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: ١٠٦] جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْخَيْرِيَّةُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَرَافِقِ الْعِبَادِ دُونَ النَّظْمِ بِمَعْنَاهُ أَيْ مَعَ مَعْنَاهُ أَوْ مُلْتَبِسًا بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بَلْ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْإِعْجَازِ وَفِي كَوْنِهِ قُرْآنًا فَكَذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ أَيْ فَكَالْخَيْرِيَّةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَرَافِقِ الْعِبَادِ لَا إلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي النَّظْمِ فَكَانَ الْمَعْنَى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالثَّوَابِ وَنَحْوِهَا لَا بِلَفْظَةٍ خَيْرٍ مِنْ لَفْظِهَا أَوْ مِثْلِهَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ وَالْمِثْلِيَّةَ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ لَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُ السُّنَّةِ النَّاسِخَةِ خَيْرًا أَوْ مِثْلًا لِحُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ أَصْلَحَ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ وَغَيْرِهِ وَالْمُجَانَسَةُ حَاصِلَةٌ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ جِنْسٌ وَاحِدٌ مَعَ أَنَّنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مَنْ لَقِيَنِي بِحَمْدٍ وَثَنَاءٍ لَقِيتُهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ يُرَادُ بِهِ الْمِنْحَةُ وَالْعَطَاءُ لَا الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْآيَةِ أَيْضًا بِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ أَنَّ الْخَيْرَ أَوْ الْمِثْلَ هُوَ النَّاسِخُ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْإِتْيَانَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى نَسْخِ الْآيَةِ فَلَوْ كَانَ الْخَيْرُ أَوْ الْمِثْلُ هُوَ النَّاسِخَ لَتَرَتَّبَ نَسْخُ الْآيَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ دَوْرٌ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ غَايَةَ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْخَيْرَ أَوْ الْمِثْلَ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ نَاسِخًا بَلْ شَيْئًا آخَرَ مُغَايِرًا لِلنَّاسِخِ يَحْصُلُ بَعْدَ حُصُولِ النَّسْخِ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ يُفِيدُ لَوْ كَانَ مُدَّعَى الْمُسْتَدِلِّ أَنَّ الْخَيْرَ أَوْ الْمِثْلَ هُوَ النَّاسِخُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُدَّعَاهُ أَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ بَدَلٌ عَنْ الْمَنْسُوخِ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَدَلَ الْمَنْسُوخِ خَيْرٌ أَوْ مِثْلٌ خَارِجٌ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ عَلَى وِفَاقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ مِثْلُ الْكِتَابِ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ وَهُوَ الْحُكْمُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ يُنْسَخُ بِالْكِتَابِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤] فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ السُّنَّةِ بَيَانًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لِتُبَيِّنَ لِتُبَلِّغَ إذْ حَمْلُ الْبَيَانِ عَلَى التَّبْلِيغِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى بَيَانِ الْمُرَادِ تَفَادِيًا عَنْ لُزُومِ الْإِجْمَالِ وَالتَّخْصِيصِ فِيمَا أُنْزِلَ؛ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ عَامٌّ فِيهِ بِخِلَافِ بَيَانِ الْمُرَادِ لِاخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِهِ كَالْعَامِّ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُطْلَقِ وَالْمَنْسُوخِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ لِتُبَيِّنَ الْعَامَّ وَالْمُجْمَلَ وَالْمُطْلَقَ وَالْمَنْسُوخَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ بِبَيَانٍ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute