نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ وَلِأَنَّ لِلنَّظْمِ حُكْمَيْنِ: جَوَازُ الصَّلَاةِ وَمَا هُوَ قَائِمٌ بِمَعْنَى صِيغَتِهِ، وَجَوَازُ الصَّلَاةِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ الْإِعْجَازُ الثَّابِتُ بِنَظْمِهِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ فَبَقِيَ النَّصُّ لِهَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ وَدَلَالَةُ أَنَّهُمَا يَصْلُحَانِ مَقْصُودَيْنِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ النُّصُوصِ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِعْجَازِ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ اسْتَقَامَ الْبَقَاءُ بِهِمَا وَانْتَهَى الْآخَرُ.
وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ فَمِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَكِنَّهُ لَمَّا صَحَّ عَنْهُ إلْحَاقُهُ عِنْدَهُ بِالْمُصْحَفِ وَلَا تُهْمَةَ فِي رِوَايَتِهِ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ نَظْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَهَذَا لِأَنَّ لِلنَّظْمِ حُكْمًا يَتَفَرَّدُ بِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ مُتَنَاهِيًا أَيْضًا وَيَبْقَى الْحُكْمُ بِلَا نَظْمٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي أَجْنَاسِ الْوَحْيِ
ــ
[كشف الأسرار]
بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: ١٦] وَإِمْسَاكُ الزَّوَانِي أَيْ الزَّانِيَاتُ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: ١٥] نُسِخَا بِالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَعَ بَقَاءِ تِلَاوَةِ النَّصَّيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَيْهِمَا.
وَقَوْلُهُ: نُسِخَ حُكْمُهُ أَيْ نَفْسُ هَذَا الْحُكْمِ وَمَشْرُوعِيَّتُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ أَيْ تِلَاوَةُ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لَهُ وَلَوْ قِيلَ: إنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلْإِيذَاءِ وَالْإِمْسَاكِ نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ لَكَانَ أَحْسَنَ وَكَذَلِكَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ أَيْ وَكَالْإِيذَاءِ بِاللِّسَانِ، وَالْإِمْسَاكِ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: ٢٣٤] وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ نُسِخَ مَعَ بَقَاءِ تِلَاوَةِ هَذَا النَّصِّ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ مِثْلُ نَسْخِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى نَجْوَى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنَسْخِ التَّخْيِيرِ فِي الصَّوْمِ وَنَسْخِ الْمُسَالَمَةِ مَعَ الْكُفَّارِ وَثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ مَعَ بَقَاءِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لَهَا.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لِلنَّظْمِ حُكْمَيْنِ إلَى آخِرِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّصِّ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ مِثْلُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِمَا وَقِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَصْلَحَةً دُونَ الْآخَرِ، فَإِذَا انْتَسَخَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَبْقَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ يَصْلُحُ مَقْصُودًا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالْإِعْجَازِ فَإِذَا حَسُنَ ابْتِدَاءُ إنْزَالِ النَّظْمِ لَهُ فَالْبَقَاءُ أَوْلَى فَلِذَلِكَ أَيْ فَلِصَلَاحِ الْحُكْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مَقْصُودَيْنِ اسْتَقَامَ الْبَقَاءُ بِهِمَا أَيْ بَقَاءُ النَّصِّ بِبَقَائِهِمَا وَانْتَهَى الْآخَرُ أَيْ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَعْنَى كَالصَّلَاةِ مَعَ الصَّوْمِ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا جَازَ بَقَاءُ أَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْآخَرِ وَبِهِ خُرِّجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا الْمَقْصُودُ مِنْ النَّصِّ حُكْمُهُ فَلَا يَبْقَى النَّصُّ بِدُونِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالنَّظْمِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودًا جَازَ أَنْ يَبْقَى النَّظْمُ بِبَقَائِهِ فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ فَتَمَسَّكُوا بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ أَيْضًا أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمِثْلُ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ قِرَاءَةً مَشْهُورَةً إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ الَّذِي يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْقُرْآنُ.
وَمِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَمِثْلُ قِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ لِأُمٍّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وَكَرِوَايَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ لَا يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ اخْتَرَعُوا مَا رَوَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِمَّا يُتْلَى ثُمَّ انْتَسَخَتْ تِلَاوَتُهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَرْفِ اللَّهِ تَعَالَى الْقُلُوبَ عَنْ حِفْظِهَا إلَّا قُلُوبَ هَؤُلَاءِ لِيَبْقَى الْحُكْمُ بِنَقْلِهِمْ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ بِهِ فَكَانَ بَقَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا أَنْ يَكُونَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنْ قِيلَ لَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَلَمْ يَثْبُتْ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ مَا رَوَوْا كَانَ قُرْآنًا ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْبَاقِيَ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ وَلَوْ كَانَ حُكْمَ الْقُرْآنِ لَكَانَ قَطْعِيًّا قُلْنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute