وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ وَالْمُحْدِثُ لَا يَسْتَعْمِلَانِ الْمَاءَ الْقَلِيلَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمُطَهِّرِ فَلَمْ يَكُنْ مُطَهِّرًا كَامِلًا.
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى الشُّرْبِ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ بِهَذَا الْقَصْدِ حَرَامٌ وَبِدُونِهِ لَا يَحْرُمُ كَالْمَشْيِ عَلَى قَصْدِ الزِّنَا يَكُونُ حَرَامًا وَعَلَى قَصْدِ الطَّاعَةِ يَكُونُ طَاعَةً أَوْ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ كَتَحْرِيمِ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ ثُمَّ ثَبَتَ الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» تَشْبِيهٌ بِالْخَمْرِ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ وَهُوَ الْحَدُّ فَقَدْ بُعِثَ مُبَيِّنًا لِلْأَحْكَامِ دُونَ الْأَسَامِي وَالْمَعْقُولُ الَّذِي ذَكَرُوهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ أَبَاحَ مِثْلَ هَذَا الشَّرَابِ وَلَمْ يَسْلُكْ فِيهِ طَرِيقَةَ الِاحْتِيَاطِ فَهَذَا مِنْ الْقَائِلِ سَفَهٌ وَقِلَّةُ دَيَّانَةٍ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ لَا فُرْقَانَ بَيْنَهُمَا وَمَتَى لَمْ يَقُمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَتِهِ وَبَلَغَتْهُ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهُ وَيَسْقُونَ الْأَضْيَافَ وَيَجْلِدُونَ عَلَى السُّكْرِ مِنْهُ كَيْفَ يَسُوغُ لَهُ فِي الشَّرْعِ الْفَتْوَى بِالْحُرْمَةِ وَفِيهِ تَعَرُّضٌ لِحُدُودِ الدِّينِ مِنْ تَحْرِيمِ شَيْءٍ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ وَأَمْرُ التَّقْوَى وَالْأَخْذُ بِالثِّقَةِ يَرْجِعُ إلَى الْعَمَلِ بِهِ دُونَ الْفَتْوَى الَّتِي هِيَ بَيَانُ حُدُودِ الدِّينِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ لَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا مَا شَرِبْتُهُ وَلَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا مَا أَفْتَيْت بِأَنَّهُ حَرَامٌ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَمَا أَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُثْلَثِ لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْعِلَّةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ وَصُورَتُهُ إذَا وَجَدَ الْمُحْدِثُ مَاءً لَا يَكْفِي الْوُضُوءَ أَوْ الْجُنُبُ مَاءً لَا يَكْفِي الِاغْتِسَالَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: ٤٣] .
ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَدْرٍ مِنْهُ فَيَكُونُ عَدَمُهُ شَرْطًا لِجَوَازِهِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَكُونُ التُّرَابُ طَهُورًا ثُمَّ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْقَدْرِ مُفِيدٌ لِلطَّهَارَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ أَصَابَ مَاءً آخَرَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْأَوَّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِي إذَا وَجَدَ مَا يَسْتُرُ بِهِ بَعْضَ عَوْرَتِهِ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ بِقَدْرِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ بِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقَةً فَوَجَدَ مَا يُزِيلُ بَعْضَهَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ كَذَا هَاهُنَا وَلَنَا أَنَّ عَدَمَ الطَّهُورِ قَدْ تَحَقَّقَ فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا طَهُورٌ لَا يُرَادُ بِهِ طَهَارَةً حِسِّيَّةً بَلْ الْمُرَادُ بِهِ طَهَارَةً حُكْمِيَّةً أَيْ مُحَلِّلَةً لِلصَّلَاةِ وَبِاسْتِعْمَالِ هَذَا الْمَاءِ لَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ الْحِلِّ يَقِينًا بَلْ الْحِلُّ مَوْقُوفٌ عَلَى الْكَمَالِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ وَالْعِلَّةُ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْعِلَّةِ كَبَعْضِ النِّصَابِ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ وَبَعْضِ عِلَّةِ الرِّبَا فِي حَقِّ الرِّبَا وَهَذَا كَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ الرَّقَبَةِ فِي بَابِ الْكَفَّارَاتِ دُونَ الْكَمَالِ حَلَّ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ كَمَا لَوْ عَدِمَ الرَّقَبَةَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ رَقَبَةٌ تَكُونُ كَفَّارَةً، وَهَذَا الْبَعْضُ لَا يَصْلُحُ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ كَحُكْمِ الطَّهَارَةِ هَاهُنَا وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: ٤٣] مَاءٌ طَهُورٌ أَيْ مُحَلِّلٌ لِلصَّلَاةِ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَوْ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ عَنْهَا، فَإِنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ لَا غَيْرُ، وَالْمَاءُ الْمُحَلِّلُ مَاءٌ مُقَدَّرٌ لَا نَفْسُ الْمَاءِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute