احْتَجَّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: ٣] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤] وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ وَلَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِلَيْهِ نَصْبُهُ بِخِلَافِ أَمْرِ الْحُرُوبِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَادِ بِدَفْعٍ أَوْ جَرٍّ فَصَحَّ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ عَامًّا بِقَوْلِهِ {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢] وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: ٧٩] وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: ٢٤] جَوَابٌ بِالرَّأْيِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِيهَا وَحْيٌ، فَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ الْوَحْيُ بَعْدَ الِانْتِظَارِ كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً لِلْإِذْنِ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ قِيلَ: مُدَّةُ الِانْتِظَارِ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقِيلَ بِخَوْفِ فَوْتِ الْغَرَضِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ كَانْتِظَارِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ فِي النِّكَاحِ مُقَدَّرٌ بِفَوْتِ الْخَاطِبِ الْكُفْءِ.
وَكُلُّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْعَمَلَ يَجُوزُ لَهُ بِالرَّأْيِ فِي الْحُرُوبِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: ٣] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤] أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ إلَّا عَنْ وَحْيٍ وَالْحُكْمُ الصَّادِرُ عَنْ اجْتِهَادٍ لَا يَكُونُ وَحْيًا فَيَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّفْيِ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَنْصِبُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً وَالِاجْتِهَادُ دَلِيلٌ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ رَأْيُ الْعِبَادِ فَلَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ نَصْبَ الشَّرْعِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ إلَيْهِ نَصْبُهُ لَا إلَى الْعِبَادِ بِخِلَافِ أُمُورِ الْحَرْبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إذْ الْمَطْلُوبُ إمَّا دَفْعُ ضُرٍّ عَنْهُمْ أَوْ جَرُّ نَفْعٍ إلَيْهِمْ مِمَّا يَقُومُ بِهِ مَصَالِحُهُمْ وَاسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ جَائِزٌ فِي مِثْلِهِ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ فَوْقَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَمَّا يُوصَفُ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ الْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ فَمَا هُوَ حَقُّهُ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً إلَّا بِمَا يَكُونُ مُوجِبًا عِلْمَ الْيَقِينِ يُبَيِّنُهُ، أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الرَّأْيِ الَّذِي هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ الِاشْتِغَالُ بِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ وَالضَّرُورَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لَا فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذْ الْوَحْيُ يَأْتِيه فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِالرَّأْيِ كَاشْتِغَالِنَا بِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ وَهَذَا كَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ بَعُدَ عَنْ الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ لَا لِمَنْ كَانَ مُشَاهِدًا لِلْكَعْبَةِ وَلَا لِمَنْ يَجِدُ سَبِيلًا إلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الْمُحْوِجَةِ إلَى التَّحَرِّي وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَجَازَ مُخَالَفَتُهُ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي حُكْمِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ سَائِغٍ لَهُ لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ فِي حَقِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ لَمَّا جَازَ لَهُ الرَّأْيُ جَازَتْ مُخَالَفَتُهُ حَتَّى خَالَفَهُ السَّعْدَانِ فِي إعْطَاءِ شَطْرِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فِي النُّزُولِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ مَتَى سَمِعُوا أَنَّهُ يَحْكُمُ بِرَأْيِهِ فِي شَرِيعَتِهِ يَسْبِقُ إلَى أَوْهَامِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَأَمَّلُوا حَقَّ التَّأَمُّلِ أَنَّهُ يَنْصِبُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِلنُّفْرَةِ إذْ الطَّبْعُ يَنْفِرُ عَنْ اتِّبَاعِ مَيْلِهِ وَمَا يُؤَدِّي إلَى النُّفْرَةِ لَا يَكُونُ هُوَ مَأْذُونًا فِيهِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الْمُنَاقَشَةِ لِكَوْنِهِ مَبْعُوثًا لِلدَّعْوَةِ إلَيْهِ لَا لِلنَّفْرَةِ عَنْهُ
١ -
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢] أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ عَامًّا لِأُولِي الْبَصَائِرِ إذْ الْمُرَادُ مِنْ الْبَصَرِ الْبَصِيرَةُ وَكَأَنَّ قَوْلَهُ {يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢] تَعْلِيلٌ لِلِاعْتِبَارِ أَيْ اعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ لِاتِّصَافِكُمْ بِالْبَصِيرَةِ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْظَمُ النَّاسِ بَصِيرَةً وَأَصْفَاهُمْ سَرِيرَةً وَأَصْوَبُهُمْ اجْتِهَادًا وَأَحْسَنُهُمْ اسْتِنْبَاطًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ أَيْ بِوَصْفِ الْبَصِيرَةِ فَكَانَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ وَبِالدُّخُولِ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ وَقَالَ تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: ٧٩] رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إلَى دَاوُد وَعِنْدَهُ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ: إنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ لَيْلًا فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَلَمْ يُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute