للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْته أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْك قَالَتْ نَعَمْ قَالَ دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَقَالَ لِعُمَرَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ تَضُرُّك وَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ

ــ

[كشف الأسرار]

فَقَالَ لَك رِقَابُ الْغَنَمِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَنْطَلِقُ أَصْحَابُ الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ فَيُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَمَنَافِعِهَا وَيَقُومُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةٌ نَفَشَتْ فِيهِ دَفَعَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ غَنَمَهُمْ وَدَفَعَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ حَرْثَهُمْ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْحَرْثَ كَانَ كَرْمًا قَدْ تَدَلَّتْ عَنَاقِيدُهُمْ فَقَالَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت وَحَكَمَ بِذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: ٧٨] إلَى أَنْ قَالَ {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: ٧٩] الْهَاءُ ضَمِيرُ الْحُكُومَةِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ وَذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ التَّفْهِيمُ عِبَارَةٌ عَنْ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ أَيْ الْمُرَادُ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الرَّأْيِ لَا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ فَدَاوُد وَسُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِيهِ سَوَاءٌ وَحَيْثُ خَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْفَهْمُ بِطَرِيقِ الرَّأْيِ وَلِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الَّتِي قَضَاهَا دَاوُد أَوَّلًا لَوْ كَانَتْ بِالْوَحْيِ لَمَا وَسِعَ سُلَيْمَانَ خِلَافُهُ وَلَمَّا خَالَفَ وَمُدِحَ عَلَى ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بِالرَّأْيِ.

وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ قِيلَ: إنَّهُمَا اجْتَهَدَا جَمِيعًا فَجَاءَ اجْتِهَادُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ فَرَجَعَ دَاوُد إلَى اجْتِهَادِ سُلَيْمَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا وَقَعَ بِالِاجْتِهَادِ لَا يَنْتَقِضُ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِ {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: ٧٩] قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: ٢٤] جَوَابٌ مِنْ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالرَّأْيِ، فَإِنَّهُ كَانَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ إذَا فَوَّضَ الْحُكْمَ إلَى رَأْيِهِ وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَوْضَحُ، فَإِنَّهُ قَالَ وَقَدْ حَكَمَ دَاوُد بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ حِينَ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فَإِنَّهُ قَالَ {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: ٢٤] وَهَذَا بَيَانٌ بِالْقِيَاسِ الظَّاهِرِ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: ١٠٥] ، فَإِنَّهُ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْحُكْمَ بِالنَّصِّ وَبِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ إذْ الْحُكْمُ لِكُلٍّ مِنْهَا حُكْمٌ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَرَاك مِمَّا أَنْزَلَهُ إلَيْك لِدَلَالَةِ السَّابِقِ عَلَيْهِ إذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنَفَذْت إلَيْك ذَلِكَ الْكِتَابَ لِتَحْكُمَ بِغَيْرِهِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي اُسْتُنْبِطَ مِنْ الْمُنَزَّلِ حُكْمٌ بِالْمُنَزَّلِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِمَعْنَاهُ وَبِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمُنَزَّلِ خِلَافُ الْأَصْلِ.

وَقَرَّرَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذَا التَّمَسُّكَ فَقَالَ الْإِرَاءَةُ هَاهُنَا لَا تَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ لِإِرَاءَةِ الْعَيْنِ لِاسْتِحَالَتِهَا فِي الْأَحْكَامِ وَلَا لِمَعْنَى الْإِعْلَامِ لِوُجُوبِ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الثَّالِثِ كَذِكْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا أَرَاكَهُ اللَّهُ لِتَتِمَّ الصِّلَةُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَك رَأْيًا وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِرَاءَةَ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ لَا مَوْصُولَةٌ لِتَحْتَاجَ إلَى ضَمِيرٍ وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ الْمَفْعُولَانِ وَهُوَ جَائِزٌ.

١ -

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اعْتَبَرَ فِيهِ دَيْنَ اللَّهِ بِدَيْنِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ بَيَانٌ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَحَدِيثُ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: إنِّي أَتَيْت الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ فَقَالَ هَشَشْت إلَى امْرَأَتِي فَقَبَّلْتُهَا فَقَالَ: رَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك قَالَ لَا قَالَ فَفِيمَ إذًا» أَيْ فَفِيمَ تَشُكُّ إذْ قَدْ عَرَفْت ذَلِكَ فَاعْتَبَرَ فِيهِ مُقَدَّمَةَ الْجِمَاعِ وَهِيَ الْقُبْلَةُ بِمُقَدَّمَةِ الشُّرْبِ وَهِيَ الْمَضْمَضَةُ فِي عَدَمِ فَسَادِ الصَّوْمِ وَهُوَ قِيَاسٌ ظَاهِرٌ بَلْ عَدَمُ الْفَسَادِ فِي الْقُبْلَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>