للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقِيلَ فِيمَنْ أَتَى أَهْلَهُ أَنَّهُ يُؤْجَرُ فَقِيلَ أَيُؤْجَرُ أَحَدُنَا فِي شَهْوَتِهِ فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهُ فِي حَرَامٍ أَمَا كَانَ بِإِثْمٍ وَقَالَ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكُنْت شَارِبَهُ وَهَذَا قِيَاسٌ وَاضِحٌ فِي تَحْرِيمِ الْأَوْسَاخِ لِحُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ وَلِأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْبَقُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ حَتَّى وُضِعَ لَهُ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فَمُحَالٌ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَعَانِي النَّصِّ

ــ

[كشف الأسرار]

أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهَا تُهَيِّجُ الشَّهْوَةَ وَلَا تُسَكِّنُهَا وَالتَّمَضْمُضُ تُسَكِّنُ شَيْئًا مِنْ الْعَطَشِ وَقَالَ فِيمَنْ أَتَى أَهْلَهُ إنَّهُ يُؤْجَرُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» اعْتَبَرَ مُبَاشَرَةَ الْحَلَالِ فِي اسْتِحْقَاقِ مُوجِبِهَا وَهُوَ الْأَجْرُ بِضِدِّهَا وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الْحَرَامِ فِي اسْتِحْقَاقِ مُوجِبِهَا وَهُوَ الْوِزْرُ، وَهَذَا بَيَانُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالْمَجُّ رَمْيُ الْمَاءِ مِنْ الْفَمِ مِمَّا يُطْلَبُ.

، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَعَانِي النُّصُوصِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْبَقُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ أَيْ أَكْمَلُهُمْ فِيهِ حَتَّى كَانَ يَعْلَمُ بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ وَكَانَ عَالِمًا بِمَعْنَى النَّصِّ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْمَالِ لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ مَعَ اطِّلَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ لِلْعِبَادِ وَأَكْثَرُ صَوَابًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَجَازَ لِأُمَّتِهِ ذَلِكَ لَكَانَتْ الْأُمَّةُ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ

وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْصِبٌ أَعْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَدْرِكُ الْأَحْكَامَ وَحْيًا وَهُوَ أَعْلَى مِنْ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْوَحْيُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِنْ الِاجْتِهَادِ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي اسْتِدْرَاكِ الْحُكْمِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ جُودَةِ الْخَاطِرِ وَقُوَّةِ الْقَرِيحَةِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا نَوْعًا مُفْرَدًا مِنْ الْفَضِيلَةِ لَمْ يَخْلُ الرَّسُولُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ وَضَحَ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دُونَ غَيْرِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ يُتَرَاءَى مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إنْ وَجَبَ عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: ٧] كَمَا هُوَ مُخْتَارُ السَّلَفِ وَالشَّيْخَيْنِ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْلَمَهُ الرَّسُولُ كَمَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: ٧] كَمَا هُوَ مُخْتَارُ الْخَلَفِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَخْصُوصًا بِعِلْمِهِ بَلْ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ أَيْضًا، فَأَمَّا أَنْ يَعْلَمَهُ الرَّسُولُ وَلَا يَعْلَمَهُ غَيْرُهُ فَمُخَالِفٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُقُوفِ عَلَى إلَّا اللَّهُ وَمَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَأْوِيلَهُ بِدُونِ تَعَلُّمِ اللَّهِ إلَّا اللَّهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: ٦٥] أَيْ لَا يَعْلَمُ بِدُونِ تَعْلِيمِ اللَّهِ إلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ إلَّا حِينَئِذٍ بِمَعْنَى غَيْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَخْصُوصًا بِالتَّعْلِيمِ بِدُونِ إذْنٍ بِالْبَيَانِ لِغَيْرِهِ فَيَبْقَى غَيْرَ مَعْلُومٍ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي حَصْرَ الْعِلْمِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا صَارَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِالْمُتَشَابِهَاتِ النَّازِلَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّعْلِيمِ لَا يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيمُ حَاصِلًا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِالْمُتَشَابِهِ قَبْلَ نُزُولِهَا فَيَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ بِقَوْلِهِ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: ٧] وَبِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى حَصْرِ الْعِلْمِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي ذُكِرَ أَلَا تَرَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ تُوجِبُ حَصْرَ عِلْمِ الْغَيْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْلَمَ غَيْرُ اللَّهِ بِتَعْلِيمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>