للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذَا وَضَحَ لَهُ لَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لِلْعَمَلِ شُرِعَتْ إلَّا أَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَاجْتِهَادَهُ لَا يَحْتَمِلُ وَلَا يَحْتَمِلُ الْقَرَارَ عَلَى الْخَطَأِ، فَإِذَا أَقَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُصِيبٌ بِيَقِينٍ وَذَلِكَ مِثْلُ مُشَاوَرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ مِثْلُ مُشَاوَرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَأَخَذَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الرَّأْيَ عِنْدَهُ فَمَنَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: ٦٨]

ــ

[كشف الأسرار]

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: ٢٦] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: ٢٧] فَكَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لِمَا جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْزِلَتَهُ دُونَ النَّصِّ فَيَكُونَ ظَنِّيًّا كَاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، وَيَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ إذْ ذَاكَ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَالْقَرَارَ عَلَيْهِ وَاجْتِهَادُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ فِي الْأَحْكَامِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥] وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْآيَاتِ فَلَوْ جَازَ الْخَطَأُ عَلَيْهِ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَإِنْ احْتَمَلَ الْخَطَأَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٣] .

، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْطَأَ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ وَبِدَلِيلِ نُزُولِ الْعِتَابِ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْقَرَارُ عَلَى الْخَطَأِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ، فَإِذَا أَقَرَّهُ اللَّهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ دَلَّ أَنَّهُ كَانَ هُوَ الصَّوَابَ فَيُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ كَالنَّصِّ فَيَكُونُ مُخَالَفَتُهُ حَرَامًا وَكُفْرًا وَهُوَ نَظِيرُ الْإِلْهَامِ، فَإِنَّ إلْهَامَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ لَا يَسَعُ مُخَالَفَتُهُ بِوَجْهٍ، وَإِلْهَامُ غَيْرِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

قَوْلُهُ (وَذَلِكَ مِثْلُ أُمُورِ الْحَرْبِ) أَيْ الِاجْتِهَادُ وَالْعَمَلُ بِالرَّأْيِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِثْلُ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إبْطَالُ الْفَرْقِ الَّذِي ادَّعَتْهُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَهُوَ مُشَاوَرَةٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ جَوَازُهَا وَفَسَادُهَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَمِمَّا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ يُشَاوِرُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا فِي الْحُرُوبِ.

وَقِصَّةُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا وَأُسِرَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ وَالْإِخْوَانُ وَأَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ الْفِدْيَةَ فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ وَعَسَى أَنْ يَهْدِيَهُمْ اللَّهُ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنَّهُمْ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوك وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَقَادَةُ الْمُشْرِكِينَ فَأَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ قَرِيبٍ لِعُمَرَ وَعَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ وَحَمْزَةَ مِنْ الْعَبَّاسِ فَلْنَضْرِبَنَّ أَعْنَاقَهُمْ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا مَوَدَّةٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَالَ {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: ٣٦] وَمَثَلُك يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ قَالَ {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: ٢٦] فَهَوِيَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ فَأَخَذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: ٦٧] إلَى قَوْلِهِ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: ٦٨] أَيْ لَوْلَا حُكْمٌ سَبَقَ إثْبَاتُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِخِطَاءٍ وَهَذَا خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي أَنَّ اسْتِبْقَاءَهُمْ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى إسْلَامِهِمْ وَتَدَيُّنِهِمْ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّ قَتْلَهُمْ أَعَزُّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْيَبُ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ وَقِيلَ كِنَايَةٌ أَنَّهُ يَسْتَحِلُّ لَهُمْ الْفِدْيَةُ الَّتِي أَخَذُوهَا وَقِيلَ: إنَّ أَهْلَ بَدْرٍ مَغْفُورٌ لَهُمْ وَقِيلَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ قَوْمًا إلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَتَقْدِيمِ النَّهْيِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنْ الْفِدَاءِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرَ» وَإِنَّمَا أَمْضَى ذَلِكَ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ نَزَلَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ عُمِلَ بِهِ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>