فَإِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ إلَّا بِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى إلَّا بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ لَمْ يَسَعْهُ الْخِلَافُ وَصَارَ يَقِينًا كَرَامَةً وَفِي الِابْتِدَاءِ كَانَ خِلَافُهُ مَانِعًا عِنْدَنَا.
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ لَمْ يَنْقَرِضْ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِدُونِ الِانْقِرَاضِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ. لَكِنَّا نَقُولُ مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً مِنْ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ مَا إذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ وَلَمْ يَنْقَرِضْ أَيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَبْلَ الِانْقِرَاضِ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ بَعْدَ الِانْقِرَاضِ، فَلَا يَصِحُّ الزِّيَادَةُ أَيْ زِيَادَةُ اشْتِرَاطِ الِانْقِرَاضِ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ شَيْءٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَوْ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى النَّسْخِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِمَا ذَكَرُوا مِنْ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو الْإِجْمَاعَ أَيْ لَا يُجَاوِزُهُ كَرَامَةً أَيْ كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا لِمَعْنًى يُعْقَلُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَوْ كَانَ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِأُمَّةٍ دُونَ أُمَّةٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ ذَلِكَ أَيْ عَدَمُ مُجَاوَزَةِ الْحَقِّ عَنْهُمْ بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأُمَّةُ حِينَ اتَّفَقَتْ أَجْمَعَتْ عَلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَقَوْلُهُمْ الِاسْتِقْرَارُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ حَالَ تَأَمُّلٍ وَتَفَحُّصٍ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا مَضَتْ مُدَّةُ التَّأَمُّلِ وَقَطَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَيَكُونُ اشْتِرَاطُهُ بِلَا حَاجَةٍ فَيَكُونُ فَاسِدًا.
وَكَذَا تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ التَّسْوِيَةِ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي زَمَانِهِ وَنَاظَرَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَتَجْعَلُ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ طَوْعًا كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ فَأَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ أَيْ بُلْغَةُ الْعَيْشِ وَهُمْ فِي الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَلَمْ يُرْوَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ إلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِ رَأْيِهِ مُنْعَقِدًا، فَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إلَيْهِ عَمِلَ بِرَأْيِهِ فِي حَالِ إمَامَتِهِ وَكَذَا مُخَالَفَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا أَيْضًا. وَقَوْلُ عُبَيْدَةَ: رَأْيُك فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعَ عُمَرَ جَمَاعَةً لَا أَنَّ مَعَهُ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ. وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عَلِيٍّ مُنْضَمًّا إلَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِأَنَّهُ كَانَ يُرَجِّحُ قَوْلَ الْأَكْثَرِ عَلَى قَوْلِ الْأَقَلِّ وَعَلِيٌّ لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ بَلْ بِقُوَّةِ الدَّلِيلِ.
قَوْلُهُ (فَإِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْدُ) أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا اتَّفَقُوا عَلَى حُكْمٍ تَقْرِيرٌ وَبَيَانٌ لِثَمَرَةِ الِاخْتِلَافِ، وَلِهَذَا قَالَ بِالْفَاءِ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُ الْبَعْضِ عَمَّا اتَّفَقَ الْكُلُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَنْ شَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ يَصِحُّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مِنْ الْكُلِّ عَلَيْهِ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ، فَكَذَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مِنْ الْكُلِّ لَا يَبْقَى إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِوَصْفِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِذَا رَجَعَ الْبَعْضُ لَمْ يَبْقَ وَصْفُ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يَبْقَى اسْتِحْقَاقُ الْكَرَامَةِ وَلَا يَبْقَى حُجَّةً بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِانْقِرَاضِ لِبَقَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ تَصَوُّرِ الرُّجُوعِ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تُشِيرُ إلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ لَكِنْ لَا يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ الرُّجُوعِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute