وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمْ بَلْ خِلَافُ الْوَاحِدِ لَا يُعْتَبَرُ وَلَا خِلَافُ الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ أَحَقُّ بِالْإِصَابَةِ وَأَوْلَى بِالْحُجَّةِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» .
وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةً فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَصْلُحُ لِلِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ مُخَالِفًا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا هَذَا كَرَامَةٌ ثَبَتَتْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ بِهِ دَلِيلُ الْإِصَابَةِ فَلَا يَصْلُحُ إبْطَالُ حُكْمِ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرُبَّمَا كَانَ الْمُخَالِفُ وَاحِدًا وَرُبَّمَا قَلَّ عَدَدُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ
ــ
[كشف الأسرار]
احْتِمَالِ الرُّجُوعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ كَمَا لَوْ تَحَقَّقَ الِانْقِرَاضُ؛ لِأَنَّ بِاتِّفَاقِهِمْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَصَارَ اتِّفَاقُهُمْ دَلِيلًا قَطْعِيًّا كَرَامَةً لَهُمْ فَكَانَ الرُّجُوعُ مُخَالَفَةً لِلدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَمُبَيِّنًا أَنَّ إجْمَاعَهُمْ انْعَقَدَ عَلَى الْخَطَأِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ؛ فَإِنَّ خِلَافَ الْبَعْضِ كَانَ مَانِعًا مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْحَقُّ بِيَقِينٍ فَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لِاحْتِمَالِ الصَّوَابِ فَظَهَرَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ مُخَالِفٌ لِلْبَقَاءِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ حَالَةِ الْبَقَاءِ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ وَلَمْ يَسَعْهُ وَخِلَافُهُ رَاجِعٌ إلَى الْبَعْضِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمْ) يُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بَعْدَمَا أَجَابَ عَنْهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، يَعْنِي مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مَا كَانَ يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا بِهِ مَمْنُوعٌ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْإِجْمَاعِ اتِّفَاقَ الْجَمِيعِ بَعْدَمَا أَجَبْنَا عَنْهُ وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ وَيَجُوزُ أَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الدَّرَجِ وَالِاسْتِطْرَادِ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ لَمَّا آلَ إلَى أَنَّ خِلَافَ الْبَعْضِ فِي الِابْتِدَاءِ مَانِعٌ ذَكَرَ الْخِلَافَ الَّذِي فِيهِ، وَقَالَ هَذَا عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَيْضًا.
، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أُسْتَاذِ الْكَعْبِيِّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ بَلْ يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْأَقَلُّ قَدْ بَلَغَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ مَنَعَ خِلَافُهُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ إنْ سَوَّغَتْ الِاجْتِهَادَ لِلْمُخَالِفِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَانَ خِلَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ مِثْلُ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي تَوْرِيثِ الْأُمِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ مَعَ الزَّوْجِ وَالْأَبِ أَوْ مَعَ الْمَرْأَةِ وَالْأَبِ وَخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، مِثْلُ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَخِلَافِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي أَنَّ النَّوْمَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقِيلَ يَكُونُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ حُجَّةً وَلَا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ تَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ خِلَافَ الْأَقَلِّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ الْمُنْفَرِدَ بِقَوْلِهِ مُخْطِئٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الْأَقَلِّ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» كَانَ لَفْظُ الْأُمَّةِ الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ وَإِنْ شَذَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْ اثْنَانِ كَمَا يُقَالُ: بَنُو تَمِيمٍ يَحْمُونَ الْجَارَ، وَيُرَادُ أَكْثَرُهُمْ. وَيُقَالُ: رَأَيْت بَقَرَةً سَوْدَاءَ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا شَعَرَاتٌ بِيضٌ وَبِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ اعْتَمَدَتْ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعَلِيٌّ وَسُلَيْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِمْ وَبِأَنَّ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ إذَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَذَا فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرَتْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ فِي رِبَا الْفَضْلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ اتِّفَاقُ الْأَكْثَرِ حُجَّةً لَمَا جَازَ لَهُمْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا.
وَمُتَمَسَّكُ الْجُمْهُورِ مَا أَشَارَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute