وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» هُوَ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّهُمْ مَنْ هُوَ أُمَّةٌ مُطْلَقًا.
ــ
[كشف الأسرار]
إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عُرِفَ حُجَّةً بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ١١٥] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: ١٤٣] {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: ١١٠] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَهَذِهِ النُّصُوصُ بِحَقِيقَتِهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَمَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ مُخَالِفًا لَهُمْ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ.
وَإِنَّمَا هَذَا كَرَامَةٌ أَيْ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ بِهِ أَيْ بِاتِّفَاقِهِمْ أَوْ بِإِجْمَاعِهِمْ دَلِيلُ إصَابَةِ الْحَقِّ يَعْنِي ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ فِي عَصْرٍ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَاتَّفَقُوا عَلَى حُكْمٍ يَثْبُتُ بِهِ الْإِجْمَاعُ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ كَمَا لَا يُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ إذَا أَخْبَرُوا بِخَبَرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إبْطَالُ حُكْمِ الْأَفْرَادِ أَيْ عَدَمُ اعْتِبَارِ مُخَالَفَتِهِمْ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بِدُونِ رَأْيِهِمْ؛ لِأَنَّ فِيمَا ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَجَبَ رِعَايَةُ جَمِيعِ أَوْصَافِ النَّصِّ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي الْأَحْكَامِ وَرُبَّمَا كَانَ الْمُخَالِفُ وَاحِدًا كَمُخَالَفَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعَوْلِ وَفِي اشْتِرَاطِ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْإِخْوَةِ لِحَجْبِ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَمِثْلُ مُخَالَفَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَرُبَّمَا قَلَّ عَدَدُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ كَخِلَافِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي جَوَازِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَكَانُوا يَعُدُّونَ الْكُلَّ اخْتِلَافًا لَا إجْمَاعًا، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى خِلَافِ الْوَاحِدِ الْجَمِيعَ وَالْأَقَلِّ الْأَكْثَرَ وَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ إجْمَاعًا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لَأَحَالَتْ الْعَادَةُ عَدَمَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَفَرَّدَ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِأَشْيَاءَ، وَقَدْ أَثْبَتُّمْ الْإِجْمَاعَ مَعَ خِلَافِهِمْ مِثْلُ خِلَافِ حُذَيْفَةَ فِي وَقْتِ السُّحُورِ وَخِلَافِ أَبِي طَلْحَةَ فِي أَكْلِ الْبَرَدِ فِي حَالِ الصَّوْمِ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِبَا الْفَضْلِ قُلْنَا: إنَّمَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَخِلَافِ حُذَيْفَةَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: ١٨٧] وَكَذَا خِلَافُ أَبِي طَلْحَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: ١٨٧] وَالصِّيَامُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِمْسَاكُ مَعَ أَكْلِ الْبَرَدِ، وَكَذَا خِلَافُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّبَا مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» ، وَلِهَذَا أَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ وَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِمْ بَعْدَمَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ لَا لِأَنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ.
قَوْلُهُ (وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِ الْخَصْمِ فَقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ جَمِيعُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ وَكُلُّهُمْ تَفْسِيرًا وَتَأْكِيدًا لِلْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَكْثَرِ مِمَّنْ هُوَ أُمَّةٌ مُطْلَقَةٌ أَيْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَهْوَاءٌ وَبِدَعٌ؛ فَإِنَّ الْكُفَّارَ وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ لَيْسُوا مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُمْ أُمَّةُ دَعْوَةٍ لَا أُمَّةُ مُتَابَعَةٍ.
وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ هُوَ الْكُلُّ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا دُونَ الْكُلِّ وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ كُلِّهَا أَوْ الْمُرَادُ مِنْ مُتَابَعَةِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مُتَابَعَةُ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنْ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ، ثُمَّ خَالَفَ الْبَعْضُ بِشُبْهَةٍ اعْتَرَضَتْ لَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute