وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي السَّلَفِ، فَقَدْ صَحَّ الْقَوْلُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَأَنَّ إجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ السَّلَفِ عَلَى بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ وَفِيمَا لَمْ يَسْبِقْ الْخِلَافُ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ
ــ
[كشف الأسرار]
لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَانْعِقَادِهِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ الشَّاذَّ مَنْ خَالَفَ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ يُقَالُ: شَذَّ الْبَعِيرُ وَنَدَّ إذَا تَوَحَّشَ بَعْدَمَا كَانَ أَهْلِيًّا فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ إذْ الْمُخَاطَبُ لَا يَدْخُلُ فِيمَنْ أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفٌ لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حُجَّةً.
قُلْنَا: يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ إجْمَاعٍ مُخَالِفٌ شَاذٌّ لِيَكُونَ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً بِدُونِ الْمُخَالِفِ وَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ ثُمَّ نَقُولُ: يَكُونُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ حُجَّةً عَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِمَّنْ هُوَ أَقَلُّ عَدَدًا مِنْ الْأَوَّلِ فَسُمِّيَ الْأَوَّلُ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَنْعِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيْكُمْ خِطَابًا لِكُلِّ وَاحِدٍ أَوْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ بِمُوجِبِهِ كَالنُّصُوصِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَفْظَةُ الْأَمَةِ تُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْكُلِّ فَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَلِهَذَا إذَا شَذَّ عَنْ الْأُمَّةِ وَاحِدٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْبَاقِي لَيْسَ كُلَّ الْأُمَّةِ وَالْأَصْلُ هُوَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا إمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً قَبْلَ مُوَافَقَةِ عَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَلْمَانَ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ بِالْبَيْعَةِ مِنْ الْأَكْثَرِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِانْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، ثُمَّ رَجَعَ هَؤُلَاءِ إلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ فَتَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ وَتَأَكَّدَتْ الْإِمَامَةُ إذْ ذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ وَاعْتِبَارُهُمْ الْإِجْمَاعَ بِالتَّوَاتُرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالْأَكْثَرُ لَيْسَ كُلَّ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّوَاتُرِ فَافْتَرَقَا
قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطٍ آخَرَ) إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاسْتَقَرَّ خِلَافُهُمْ بِأَنْ اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ حَقِّيَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ خِلَافُهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْبَحْثِ عَنْ الْمَأْخُوذِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَحَدٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَقِّيَّةَ شَيْءٍ مِنْ طَرَفَيْهَا وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فَذَلِكَ هَلْ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَصْرِ الَّذِي بَعْدَهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهَلْ يَكُونُ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ؟ وَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ يَمْنَعُ وَتَبْقَى الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً كَمَا كَانَتْ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ السَّابِقُ بِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي خَيْرَانَ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُ مِنْ الِانْعِقَادِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْنَعُ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا إلَى آخِرِهِ إلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ صَحَّ الْقَوْلُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ أَيْ عَدَمَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَهُمْ
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ أَوْ هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَهُمْ فَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى اشْتِرَاطِهِ