فَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَاطِلٌ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يُنْقَضُ، فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الِاخْتِلَافَ الْأَوَّلَ مَانِعًا مِنْ إجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مُجْتَهَدٌ وَفِيهِ شُبْهَةٌ فَيَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَا يُنْقَضُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ أَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُخَالِفَ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ، وَهُوَ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
مِنْ وَجْهٍ وَلَا يَصْلُحُ مِنْ وَجْهٍ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ مُتَحَقِّقًا بَيْنَهُمْ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَكُونُ، فَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ أَوْ عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفِي بَعْضِهَا مَعَ مُحَمَّدٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ يَنْعَقِدُ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
قَوْلُهُ (فَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يُجَوِّزُوهُ حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْفَ تَبِيعُونَهُنَّ، وَقَدْ اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ. وَجَوَّزَهُ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ وَالْآنَ رَأَيْت بَيْعَهُنَّ، وَقَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ التَّابِعُونَ أَجْمَعُوا قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِجِوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ يَكُونُ قَضَاؤُهُ بَاطِلًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي فَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَى خِلَافِهِ فَدَلَّ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ قَدْ ارْتَفَعَ الِاخْتِلَافُ السَّابِقُ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَمْ تَبْقَ اجْتِهَادِيَّةً.
وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَهُمْ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الِاخْتِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ. هَذَا أَيْ هَذَا الْجَوَابُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَرْتَفِعْ الِاخْتِلَافُ السَّابِقُ وَأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ إجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ حَيْثُ صَحَّ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُنْقَضْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا يَعْنِي لَا يَدُلُّ هَذَا الْجَوَابُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا أَيْ الْإِجْمَاعَ الَّذِي تَقَدَّمَهُ خِلَافٌ إجْمَاعٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ أَيْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ هُوَ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ أَيْ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ إجْمَاعًا هُوَ إجْمَاعٌ فِيهِ شُبْهَةٌ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَلَا يُضَلَّلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ أَيْ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَلَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَكَانَ هَذَا قَضَاءً فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي فِي فَصْلٍ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ يَصِيرُ لَازِمًا وَمُجْمَعًا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَضَى قَاضٍ آخَرُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَلَى خِلَافِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ بِأَنْ اُسْتُقْضِيَ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَقُضِيَ بِقَضِيَّةٍ أَوْ اُسْتُقْضِيَتْ امْرَأَةٌ فَقُضِيَتْ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَرُفِعَ إلَى آخَرَ فَأَبْطَلَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ لَمَّا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَانَ الْقَضَاءُ الثَّانِي فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ لَا فِي أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَيَنْفُذُ كَذَا هَاهُنَا.
وَذُكِرَ فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ فِي الْقَضَاءِ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ رِوَايَاتٌ وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، وَفِي قَضَاءِ الْجَامِعِ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ إنْ أَمْضَى ذَلِكَ الْقَضَاءَ نَفَذَ وَإِنْ أَبْطَلَ بَطَلَ وَهَذَا أَوْجَهُ الْأَقَاوِيلِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute